عندما نشرت لأوّل مرة أحد نصوصي رأى أحدهم صفاء وجهي من خلال ما كتبت. عندما نكتب ونعرّي أنفسنا من أقنعتنا اليومية، يرانا احدهم من الجهة المقابلة للكون دون أن ندري. عندما كتبت هنا، أحبّني أحدهم، و عندما لم يعد يحبني توقّفت عن الكتابة. نعم، أعترف أن تلك كانت دوافعي للكتابة، وأعترف أنّها فكرة بسيطة وموجعة كنقطة وحيدة في خواء لا متناه.
حزينة جدا الفكرة التالية: العدد الأخير/ الاعترافات الأخيرة:
كلماتي أجمل مني، كلماتي تقف ثابتة، لا تعرف التلكؤ ولا الانكسار بعكسي تماماً. كلماتي لا تفضحني كما يفضحني وجهي. عندما أكتب أفيض سيلاً، يتلبّسني شيطان، أمّا عندما أباشر بالكلام تعلق الحروف في حلقي وأصاب بدوارٍ حاد. عندما أكتب تظهر الكلمات كغيم خجول، تغلّفني وتدخل جسمي من أذنيّ، اسمعها، وأتذوّقها. عندما أتكلّم تمسي علاقتي مع كلماتي بائسةً جداً وغبيّةً جداً.
سألني أحدهم مرّة إن كنت أحبه. تربّص فيني سكون ثقيل وعندما عدت إلى غرفتي كتبت على شاشة هاتفي الذكي أنّ حبي له أزرق، ودافئ، ورائحته كرائحة إبطيه. كتبت أيضاً أنّني أود لو نضع اسماً أو رقماً لكلّ حب، لأنّ لا حب يشبه الآخر.
أعتقد أنّ كلّ كلماتي المرتبطة بك تشبه قالباً يساعني كالجنين، ولا يسع أحداً غيري.
أعتقد أنّ القبائل القديمة كانت تتواصل بالأصوات لأنّها وجدت مكاناً وفضاءً في الطبيعة يحتضن فراغها. أعتقد أيضاً أنّنا عندما بدءنا نشق طرقاتنا ونبني أبنية شاهقة لجأنا إلى الكلمات لأنّها المكان الآمن الوحيد. هناك كلماتٌ دافئةٌ جدّاً، تدخلها شمس خجولة. هناك كلمات رمادية، تغلّفنا بجدران من زجاج، لا نراها في أحيان كثيرة، لكنّها تحمينا من المحيط. هناك كلمات كفضاء وسيع، تتّسع حدودها ولا تعرف الانكماش.
يصيبني رهاب حاد من عدم إيجادي لكلمات تعبّر عمّا أريد. أخاف احتمال فقدان كلماتي أكثر من احتمال إصابتي ببكم مفاجئ.
أعتقد أنّ الكتابة تنتشلنا من وقوعنا اليومي. عندما أحزن جراء فقداني أحدهم أسبح في اللغة، وأغرق مع كلمات أعرف أنّها سوف تنتشلني قريباً.
عندما أكتب وأعيد قراءة ما كتبت أشعر أنّني أقبّل نفسي.
قال لي أحدهم إنّ الكتابة إذلال للنفس. أعتقد أنّه محق، وأعتقد أيضاً أن التعري الأكثر جرأةً هو هنا. خوفي من تفلّتي التام بالكتابة يفوق خوفي من المشي عارية وسط الجموع.
أعتقد أنّنا نكتب كي نكذب. وأنّ الكتابة هي الكذبة الوحيدة الأكثر حقيقة.
أعتقد أنّ الكتابة رجل حكيم أحدهم وصفه بالجنون، يمسك بأيدينا ويجرّنا إلى المكان الذي علينا أن نكون موجودين فيه. أعتقد أنّ الكتابة تكتبنا، وأنّها تعرف عنا أكثر ممّا نعرف عن أنفسنا.
أعتقد أنّه لا حياة في الآخرة، وأعتقد أنّ هناك دوماً حيوات سابقة، ولا أدري كيف أوفّق بين هاتين الفكرتين.
أعتقد أنّ الموت كنوم عميق، وأنّ نومنا اليومي ما هو إلّا حاجة كي نختبر هذا الموت قبل اللقاء الكبير.
أعتقد أنّ الأطفال كائنات غريبة. وأعتقد أنّ الطفل في داخلي لا زال موجوداً رغبة مني في أن أحب نفسي منذ القدم.
عندما أغمض عينيّ، وأفكّر في لحظاتي الأولى في رحم أمي، أشعر بالذنب لأنّني أكلت من رحمها.
نكتب لأنّ كلماتنا يد تمتد ورائحة تغمر. يد تربّت على كتفنا، وتخالج الآخرين كي يربّتوا على كتفنا. رائحة تعبّر رغماً عمّن أغلق فجوات جسده منذ زمن. الاعترافات الأخيرة في العدد الأخير هي دوماً الأمل الأخير. نكتب لأنّنا لا نقوى على فعل شيء آخر.