ينهض المجهول مذعوراً.. يلقي نظرة أخيرة على منزله.. ويخرج الى الشوارع التي بات يعرف فيها باللامسمى واللامنتمي.. يطارد سيارة أجرة بين تلك الأضواء القليلة المبعثرة هنا وهناك.. مخالفاً كل الأعراف البشرية المنصوص عليها في ليالي كانون والتي تفرض بسبب قسوة طقسها أن يهرع الكل الى ايجاد مأوىً دافئ هرباً من صقيعها والتي تفرض كذلك حلاوة النوم قرب المدفأة خاصة مع اقتراب ساعات الصباح..
أخيراً يلقى ضالته.. ويلتقي سائق أجرة يسأله مستغرباً: ما الذي قض مضجعك يا سيدي حتى تخرج في هذا الليل البارد؟
يسأله ببراءة متعمدة خوفا من الرفض: هل يمكنك أن تقلني؟
- طبعاً.. اصعد يا عزيزي
يصعد "العزيز" في سيارة أجرة .. يقلّب هذه الكلمة في رأسه.. عزيزي اذاً .. ومنذ متى كنت عزيزاً عليه.. حتى هذه اللحظة كنت لا أزال مجهولاً من دون اسم ولا حتى صفة انسانية .. لا يهم الآن .. المهم أن أمضي..
- أين وجهتك والى أي مكان تريدني أن أقلك ؟ يسأل السائق
يجيب ببرودة مخيفة وبسذاجة مكرة: خذني الى العام الجديد ..
يقهقه السائق عاليا.. ويشعل سيجارته ليستمتع بسذاجة راكب قد يندر أن يلتقيه يوميا..
- حسناً اذاً يا سيد تريد أن نذهب الى العام الجديد.. ولكن أتدري أن هذه الرحلة ستكلفك غالياً .. هل بمقدورك أن تتحمل النفقات؟
يجيب بهدوء مريب:
- اه طبعاً سيدي .. وان لم أدفع وحدي فلي اخوة كثر يتحملون همّ المصروف معي وسيردون لك تكاليف أتعابك كاملة.. ولي يقين كامل أنك تعرفهم وتعرف عنوانيهم..
تمضي لحظات قصيرة بالمقياس الزمني ولكن دهرية بالمقياس البشري .. تتقابل فيها عينا الرجلان .. يحدّث السائق نفسه متمعناً براكبه الغريب .. لكأنني أعرفه .. أجل لقد رأيته يوماً ما ولكن لا أستطيع أن أتذكر أين.. هذه النظرات قد أصابتني يوماً ولكنني لا أتذكر شيء.. الهي كم هو بسيطٌ هذا المخلوق يريد للزمن أن يتقمّص هيئة الأماكن.. حتماً لا يدري الى أين هو ذاهب.. اوه.. بمقدوري حتى أن أخمّن أنه لا يدري أصلاً من أين أتى.. ولكن ليكن ما يكون..المهم أن ألقى ثمن الرحلة في النهاية.
على الكرسي الخلفي .. وفي انعكاس المرآة الأمامية يتأمل المجهول عينا السائق محتفظاً بهدوءه المريب ذاته ومدركاً بالكامل ما دار في رأس سائقه .. لا يستطيع التعرف عليّ اذاً.. لا يهم .. المهم أننا وللمرة الأولى على متن السيارة نفسها..
يغمر الشك السيارة الضيقة وتلتقي مصالح الرجلان على ضرورة المضي قدماً بالرحلة.. يشغل السائق محرك السيارة وينطلق.
- اذاً, يا أيها الراكب.. تريد أن أوصلك الى العام الجديد.. حدثني كيف تنوي أن تمضي ليلتك احتفالاً به؟
- سأستقبل هذا العام مثلما استقبلت العام المنصرم ومثلما سأستقبل العام الذي يليه.
- حقاً ما تقول يا سيد.. أنا أيضاً مللت الروتين السنوي عينه .. كل الاحتفالات تشبه بعضها .. التكاليف باهظة ولكن لا شيء جديد.. نفس البرامج الاحتفالية ون ف س ..
تضيع الحروف مرعوبةً بين أوتار حنجرة السائق وتعود للاختباء في صدره بين ثنايا أنفاسه المتقطعة وتستحيل سخريته ذعراً .. تضرب سيارته شجرة صودف وجودها على الرصيف..تحركه غريزة الحياة الآن..ينسى هول الحادث ويركز على المسدس الذي صوّبه الراكب على رأسه.
- سيدي, يا راكبي العزيز, ما الذي دهاك..إن الذي تفعله ضرب من ضروب الجنون..ارم هذا الشيء جانباً أرجوك.
تنقلب الأدوار.. الراكب المجهول يقهقه والسائق يترقب ردة فعله.
- اذاً أنت مللت الروتين السنوي عينه ايه؟ مللت أن تقرب الساعة الثانية عشرة وتسلي النفس بأمنيات وردية, قد تتحقق أو لا لست أدري, المهم أن يبلغ فرحك منتهاه والأمل ذروته ولا يهم ان ذوى كل شيء في اليوم التالي فجأة اليس كذلك؟
كم أنت محظوظ يا سيدي لا زلت تستطيع تحديد بداية العام ونهايته أليس كذلك؟ ولكنني أنا السيء الحظ لم أعد أفقه اذا ما كان فعلا هناك بدايات أو نهايات.. فكل الليالي من أول عام تشبه ما قبلها وما يليها.. اه لا يا عزيزي.. لا يظنن فكرك أن هذه الليلات كلياليك تصدح بالفرح وبألوان المفرقعات وببحات المغنيين.. مسكين كم أنت مخطىء.. منذ سنين وأنا أستقبل العام الجديد على أصوات القنابل وبحات الصراخ وألوان الدم وبالخوف بدلاً من الفرح وبالموت بدلاً من الحياة..
حسناً.. أقول لك .. كل الأيام تذوي أمام رهبة ما يحصل وليس فقط الأمنيات.
أتدري أنني في يوم ليس ببعيد كنت أراقب هانئاً الحياة البرية عن كثب في حقول فلسطين وبغداد وعلمت من مشاهداتي أن عدداً من الأيام تكفي لحصول تحول اليرقات الى جمال يحوم في أشكال فراشات.. ولكن ما خطر ببالي يوماً أن هذا التحول قد يجيء معكوساً وينقلب الجمال الذي كان الى بشاعة على أشكال قذائف ودم وموت.
لننهي هذه الرحلة الآن يا سيدي..
يطلق طلقة أولى, وثانية وثالثة .. ولكن المسدس فارغ..
يضحك بالاستخفاف عينه.. " كل عام وأنت بخير يا سيدي" .. لا تقلق لا توجد طلقات معي.. لقد نفذ رصيدي منذ سنين..
أتعلم يا سيدي.. لم أعد أريد الذهاب الى العام الجديد.. ولكن هل يمكن لك فقط أن تقلّ "عزيزك" الى وطنه القديم؟
ينزل من السيارة ويهيم على وجهه.. يفتش عن أرض تعرفه ويعرفها ..
هل عرفتم السائق والراكب اللامسمى واللامنتمي؟
السائق هو الحاكم .. والراكب مواطن عربي .. أما السيارة التي تحطمت .. فليست سوى الوطن