لا أذكر متى كتبت لأوّل مرة، دون أن يكون الأمر واجباً مدرسياً. لا أذكر ما كتبت، ولا إن كان جيداً أو سيئاً. لكنّني أذكر أنني في إحدى المرات رميت أوراقاً كثيرة دون إعادة قراءة ما بها، ومرة محوت ملفات «وورد» عن اللابتوب، دون فتحها. يصير تكدّس الكلام لا يطاق، ويصير فعل التخلي هيّناً خفيفاً. ارمِ، احذف.. كلام يذهب في الثقب الأسود، بلا تمزيق وإحراق و «جعلكة». فقط ارمِ، احذف.. لا دراما، لا دموع، مجرد حمولة زائدة.
ما يحصل بعدها هو ما يحصل دائماً. يتركني الكلام حتى موسم المطر القادم. ثم أعود «غصباً عني» وأكتب شيئاً، أنهي كتابته، لا أذكر ما كتبت، ولا إن كان جيّداً أو سيئاً. الدوامة نفسها.
في مكتب «شباب السفير»، علّق رضا قصاصة من رواية لإلياس خوري: «هزّت ميليا رأسها كأنها فهمت، لكنها لم تفهم. ثمّ اكتشفت بعد ذلك بزمن طويل أن معنى الحكي هو اللامعنى. حين تركها ذلك الرجل لسبب تجهله فهمت أن الحكي بلا معنى، وأن الناس يتكلمون كي يملأوا الفراغات التي تفصلهم عن الآخرين، ويعبئوا أرواحهم بأصوات الكلمات».
كلّما ساد صمت بين اثنين واستطال، صار يسمّى «الصمت الثقيل». وكلّما ساد الصمت الثقيل أذكر هذه الجملة. الناس يتكلمون كي يملأوا الفراغات التي تفصلهم عن الآخرين، ربّما لهذا نكتب.
عندما بدأت أكتب للجريدة انتبهت لاستحالة التخلّص من هذا الكلام. لا يمكن هنا أن أتعامل مع الأشياء بمنطق «ارمِ، احذف» لأبدأ من جديد. صار للكتابات جسم، وصار يجلس في مكانه ويكبر ويحدّق بي. اسمي مكتوب على المقال، في الورق، وعلى الموقع. والورق يُباع ويشتريه الناس، بعضهم يقرأه، بعضهم يلفّ به الخس، بعضهم يمسح به الزجاج. وأنا تسلّيني وتفرحني فكرة أحدهم يمسح الزجاج بورقة عليها مقال حاولت أن أفسر به الماء، بكل جدية. لكن يرعبني ذلك الجسم من الكلام، الذي يكبر، على قلّة المادة، ويحدّق بي، ويقول إنّه باق، وعليه اسمي، أسماؤنا.
«ليست الكتابة سوى حلم موجّه»، يقول بورخيس. وبورخيس يعرف، ويحب المكتبات.
ونحن، ماذا نفعل؟ نوجّه أحلامنا؟ من يوجّه مَن؟ وإلى أين؟
«ولا مرّة بحياتي قدرت قول اللي بقصده باللحظة اللي بدي قوله فيها، ولا مرة بوقتها، ولا مرة متل ما هي». نقول عندما ينقضي وقت القول. ونكتب حتى نداري هذا الشعور بأنّه قد فات الأوان. نكتب لنعالج ما نسميه (نصف مازحين) «مشاكل التواصل». لنلتفّ على عوائق الكلام، ونتوقّف عن احتقار أنفسنا. ونحن لا نتورّع عن عضّ ألسنتنا والتقليل من قيمة ما نفعل ونقول، والإشفاق على ذواتنا وكنس الأحلام تحت السجاد، والدعس على رغباتنا.. ونحن نعيش في «المنطقة المشتعلة» ونمارس الإنكار المزمن، يوماً بعد يوم بعد يوم. نسمع الموسيقى وندّعي أنّنا لسنا مذعورين، وحين يسعفنا الخيال، نكتب، وحين لا يسعفنا البكاء، نكتب، وحين لا نعرف متى نتكلّم ومتى نصمت، نكتب.
ونكتب لأنّنا لو لم نفعل، نضيع بأفعال تعويضية قد تكون أشد خطورة من قول الجملة الغلط في الوقت الغلط. ونتفق أنّنا «لا نعرف». لكنّنا نكتب.
نُذهل من الخفّة ونريد أن نكون أكثر خِفة، أرجوك يا الله. أقل «ختيرة»، أكثر انطلاقاً. نشعر أن كل شيء يفوتنا وقته قبل أن يحين وقته، وأن لا شيء يحصل، وأن الأشياء حين تحصل فإنها تحصل خارجنا وتبقى عند السطح. ولا نفهم لماذا يزعجنا ويؤلمنا ويربكنا ويقرصنا ما يبقى على السطح. المفروض أنّه «السطح».. لماذا إذاً يخرّبنا هكذا؟
نعود إلى «الحلم الموجّه». حلمنا «السايب». حقلنا المشترك مع الرفاق القريبين والبعيدين.
طيب، لماذا نكتب؟ ربما لنهذب الجنون، ذاك الذي فينا طبعاً، بما أنّنا فقدنا السيطرة تماماً على الجنون الذي يحصل خارجنا. ذاك الذي يقبع فوق أكتافنا، كسعدان خبيث، «يتعمشق» بنا. يترك ثقله على ظهورنا، ويمد يديه الطويلتين كل حين ليحكم خنق رقابنا، خنق الممرات الحيوية الضيقة التي يمر الهواء منها. نكتب لنتنفس ربما، ولا نعرف إن كانت محاولتنا ناجحة.
نوهم أنفسنا بأنّنا ما زلنا نفهم شيئا، ونكتب. نعيد المطالبة بحقّنا بأن تكون لنا أرواح. نذكّر أنفسنا بها ونقول إننا لسنا «مكنات».
لست «مكنة»، وأعرف أن العالم يجد الأرواح غير عملية ومماطِلة ومتطلِّبة وكثيرة الحزن والضعف، ويفضّل المكنات. يفضل الأفعال، الآن وهنا، ولا ينتظرنا لنحل الأمور مع أرواحنا. يسبقنا، يدهسنا، يهرسنا ويمشي، ونحن نكبر ببطء، بسرعة، ونكتب.. «حلمنا الموجّه» يتفلّت ويطالب بالروح أوّلاً، السحر أوّلاً.
«وإكتبلَك عَ ورقة حتّى ما قول. ما بِقدر قول»، تقول فيروز في الأغنية.
نكتب حتى نستطيع أن نقول ما لا نقول، ما لا نعرف أن نقول. لنسعف أنفسنا بأنفسنا حين لا يريد أو لا يستطيع أحد تحمّل مسؤولية إسعافنا. ويصير الأمر كالسحر، اصطفاف الرموز، تداعي الكلمات والجمل، والتراكيب البسيطة. أحب التراكيب البسيطة، وأحب فيروز لأنّها لا تضطر أن تكتب مثلنا.
لماذا نكتب؟ هي محاولاتنا الأخيرة للتواصل مع الآخر، أيّ آخر. ونُصاب بالذهول وبفرح ساذج كبير، وبخوف أكبر، عندما يقول لنا أحد إنّه أحب نصاً، ونشعر بأننا كنا جزءاً من وقته الخاص، وأن هذا أمر مهم، مع أنه قد لا يكون كذلك.
لكن حقاً، لماذا نكتب؟ نكتب لننشر مكامن ضعفنا وخوفنا على الملأ. تفرّجوا يا رفاق، هذا خوفنا المفضوح، وتبقوا اكتبوا لنا أنتم أيضاً.