«أخي الصغير مزعج». قرأت هذه الجملة بالصدفة حين عثرت على دفتر كنت قد نسيت أنّه موجود. دفتر مذكراتي حين بلغت من العمر ثماني سنوات. بسبب مسلسل كرتون كان يعرض على «ديزني» ودفتر جميل أهدته إليّ رشا في عيد ميلادي السابع، بدأت كتابة يومياتي. يبدأ «داني مهضوم» حديثه في المسلسل مستخدماً عبارة «إلى مفكرتي». متأثرةً به، كنت أباشر الكتابة مستخدمة العبارة نفسها.
إلى مفكرتي، لقد صرت في الصف الخامس، وكل رفاقي الذين كانوا معي في الصف الرابع هم معي الآن. «إلى مفكرتي، لعبت اليوم كثيراً. لعبت بيت بيوت وغميضة.
إلى مفكرتي، سبق أن قلت إنّني في الصف الخامس ولقد بدأت فترة امتحانات آخر السنة. لقد أصيبت أمي بمرض السرطان وإن شاء الله سوف تشفى. إلى مفكرتي، لقد أصبحت في الصف السادس وأمي ماتت ولا أعتقد أنّني سأصبح في الصف الثاني متوسط». هنا توقفت الكتابة.
حسناً أعود دائما إلى موت أمي. وأنا نفسي أحياناً أنزعج من الموضوع وأتجنّبه. قابلت أمس شخصاً قال لي: «في ديانتنا الموت أهمّ من الولادة والحياة، الموت أساسهم. آلهة الموت والدمار بأفعالهم يسمحون لنا ببدء شيء جديد. كما الزلزال تماماً. ولذلك نحتفل بالموت كما نحتفل بالولادة». نطقت طبيبتي الفكرة ذاتها الأسبوع الماضي: «أنت لم تولدي حين خرجت من رحم، أنت ولدت بعمر العاشرة، حين خرجتِ من موت. منذ لحظة موت أمك بدأت حياتك. ولذلك الموت حياة أيضاً. فماذا ستختارين؟».
اخترت سابقاً أن أنكر الوجع رغم إشاراته الواضحة. في كلّ مرة حاولت أن أكتب كانت سلمى الشخص الوحيد الذي أكتب عنه. اليوم أعلم جيّداً أن كلّ مسار حياتي وكلّ القرارات التي اتخذتها إن كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هي نتيجة موتها. الانتقال من المنزل، اختصاصي في الجامعة، الطريقة التي أحب بها، تجنّب التعلق بأيّ منزل أو أحد، الخوف من إنجاب الأطفال والمشاعر والسيارات. الكتابة.
ـ «ماما ما عم بعرف اكتب موضوع الإنشاء».
ـ «تعي. بدنا نعمل حبكة. منحط جسر قديم ما منيح. وتحته مي والصبي بدو يلاقي طريقة ليقطع».
كانت مستلقية على الكنبة الخضراء، وأنا تحتها على البلاط أستمع وأنبهر بكل كلمة تتفوّه بها وأكتبها. حين انتهت ابتسمت قالت لي: «بحياتك ما رح تعرفي تكتبي متلي».
رددت بقهر وعفوية: «رح اكتب أحسن منك». ولذلك حين نشر أول مقال لي في «شباب» بدأت الرقص في أرجاء المنزل. شعرت بأنّني ربحت التحدي بعد 13 عاماً. كانت سترقص معي وبطريقة أفضل لو كانت هنا. في قصتها بنا الصبي الصغير قارباً، وقطع إلى الضفة الثانية من النهر.
بعد موتها لجأت إلى كتبها كمحاولة لفهم شخصيتها. على الغلاف الداخلي لواحد من كتبها ثمّة شجرة سجلت على أغصانها عبارات. ظننت أنّها من قام بتأليفها فحاولت بدوري أن أرسم شجرة وأكتب على أغصانها. قمت بتأليف قصيدة عن الحب وأخرى عن الأم ووضعت اسمي في زاوية الصفحة مثلها تماماً. شجرتها موشومة الآن على يدي اليسرى. اليد التي كسرتها ولا تزال تؤلمني. هنا بدأت الكتابة.
إلى مفكرتي، دخلت عامي السادس والعشرين، في هذه اللحظة أجلس على سطح أحد المباني في بلد لا أعرف فيه أحداً ولا أحد فيه يعرفني. للمرّة الأولى، أختبر معنى أن أكون وحيدة في هذا العالم وللمرّة الأولى لا أشعر بالوحدة. أقدّم نفسي كما هي وأتلقى الأشياء ببساطة وحب مختلفين عما في بيروت. هنا، لا أحمل تاريخي بل الجوهر الآتي منه. اكتشفت اليوم أنّي أتوتر حين أقابل أشخاصاً للمرّة الأولى، وأنني أخاف من الخروج بمفردي إلى مجهول، لكنني خرجت وكان هذا أفضلَ ما قمت به. ظننت أنّني أحببت أشخاصاً، لكنني كنت بحاجة لأن أحبّ فقط، كي لا أكون وحيدة. هناك صعوبة بألّا تفكّر بأحد يستوطن رأسك، هنا، لا أفكر بشيء سوى بالأماكن والأشخاص والأطعمة التي سأجربها فتخلق أماكن جديدة داخلي كي أشفى وأتغيّر. بعيداً من المحيط والأشخاص والرواسب، أنا قادرة أن أبصر ما صنعت هذه الإنسانة التي اسمها «نغم»، التي كانت نظرتي إليها حتى اليوم «مغبشة».
إلى مفكرتي، بهروبي إلى هذا المكان تحديداً اخترت وأجبرت على مواجهة حقيقتي. تخلّصت من أوهام المشاعر، من تفكيري بالموت، من الذنب ومن الحقد. حددتُ على موت أمي وجدي، وللمرة الأولى منذ 15 عاماً. أنا حقاً بخير. هنا يبدأ جوهري بالكتابة.