الأسبوع الماضي كدت أموت. كنت أمشي في الشارع حين سقط على بعد أمتار منّي حجرٌ من ورشة بناء. حسناً، لم أكن وحدي القريب من الموت بسبب ذلك الحجر، لكنّني على الأرجح الوحيد الذي يكتب عن الحادثة، ولا أعتقد أنّ هناك طريقة أفضل من هذه لبدء محاولة قول شيء ما عن الكتابة. هذا الفعل بات مرتبطاً بالموت وبالنجاة من هذا الموت، بالفقد وبمحاولة التواصل مع ذكرياتنا مع من نفقدهم من أشخاص وما نفتقده من أمكنة.
ـ أنا لست كاتباً
ـ بلى. أنت كاتب
ـ أنا فقط أجيد عمل نصٍّ جيّد، وهذا لا يجعلني كاتباً
هل قلتُ لكِ إنّني حاولت طويلاً الهرب من الكتابة؟ لا أظنني فعلت. قضيت سنواتٍ أقنع نفسي بأنّ كلّ النصوص النثرية والقصائد التي أفكّر بكتابتها قد كتبت بشكلٍ ما في السابق، وبأنه لا داعي لزيادة عدد النرجسيين الذين يعتقدون أنهم قادرون على صياغة الأفكار القديمة الثابتة بعبارات جديدة، لكنني في النهاية استسلمت أمام الرغبة في التخلّص من بعض الهواجس فكتبت ذلك النصّ السوداويّ اللعين وأرسلت طالباً نشره في ملحق «شباب»، وعندما نُشر شعرت فعلاً بأنني تخلّصت من أحد الهواجس لكنني اكتشفت في الوقت نفسه أنّ هناك المزيد منها ويجب التعامل معها، فكان «شباب» ملجئي. قبل أيام قرأت في الملحق نصّاً تقول كاتبته زين خزام إنّها تكتب كي تجمع ثمن لابتوب. نعم، الكتابة فعلٌ وظيفيّ. أنا منذ سنتين أوظّف الكتابة للتخلص من الهواجس. وفي هذه الأثناء أوظفها كي أقول لك إنني مشتاقٌ إليك. ها أنا ذا أعرّي مشاعري مرّة أخرى وأرتكب جريمة بحقّ نفسي. بالتأكيد، هي تعرية للمشاعر ومازوخيةٌ ومرادفةٌ للقتل في آن معاً، الكتابة.
قبل أيام قالت لنا أريج إنها ستبدأ بالكتابة والنشر بما أنّ جميع الشباب في بيروت يعملون في الكتابة والصحافة. قبل أن أقرّر أنّ بيروت ليست شارع الحمرا كان عندي مثل هذا الانطباع الذي وراءه الكميّة الكبيرة من الصحف الورقية والإلكترونية الآخذة بالتكاثر بشكلٍ مثيرٍ للريبة، لكون من يقف وراء تكاثرها رجلا واحدا. لم أجرّب الكتابة في أيّ من تلك الصحف لكنّ عندي شعوراً بالتميّز لأنني كتبت في «شباب». هذا الشعور مشتركٌ بين جميع من يكتبون في الملحق وقد رأيت عشرات التعبيرات عنه منذ اليوم الأوّل الذي التقيت فيه رضا حريري في المكتب القديم. المكتب الجديد بدوره كان شاهداً على كثيرٍ من الجدل والضحك ونشوء الصداقات وانفكاكها، وفيه رأيت واحدةً من أجمل لحظات الكتابة: إبراهيم شرارة يصل بعد يومٍ طويل بين المتظاهرين في ساحة رياض الصلح ويبدأ بتفريغ ملاحظاته نصّاً صحافيّاً، وفيه سهرنا حتى الصّباح يوم إطلاق الموقع الإلكتروني الجديد. في هذين المكتبين جزءٌ مهمٌّ من حياة المنتمين إلى جماعة «كتاب وكاتبات شباب السفير». لم يحصل جميع هؤلاء على الميزة الأخرى التي منحتني إيّاها الكتابة هنا والتي جعلتني أدخل مرّة مكتب رضا وأقول له «شكراً» دون مقدّمات وأتركه محتاراً. كان شكري له لحظتها على ترشيحه لي لتلك الميزة. أتحدّث هنا عن ميزة العمل في «السفير العربي» الذي جعلني على تواصل يوميّ مع نهلة الشهال، وهذا أمرٌ يشعر المرء بأثره الإيجابي طول الوقت حتى في أشدّ لحظات نهلة حزماً، وجعلني كذلك على تواصل مع كتابٍ من جميع أنحاء الوطن العربي وظيفة الكتابة عندهم مختلفة. الكتابة هنا فعل تغيير. قبل العمل في «السفير العربي» كنت مثل الجميع أسخر من فكرة تغيير العالم عبر الكتابة لكن بعد معرفة كتابٍ كإسماعيل الإسكندراني المعتقل الآن بسبب كتاباته وغيره ممن يتلقّون التهديدات طول الوقت عدّلت هذه الفكرة في رأسي. الآن أقول إنّ العالم يتغيّر في كلّ لحظة وإنّ بإمكان الكتّاب أن يقرروا استخدام قدراتهم في محاولة مراقبة هذا التغير والتنبيه إلى مكامن الانحدار فيه والتدليل إلى النقاط المضيئة منه لأنّ هناك تغييراً يأتي من أناسٍ مبادرين يقرّرون في لحظاتٍ ما مواجهة العدم والخراب بأفعالٍ صغيرة. نعم، يمكن للكتابة أن تكون فعل حياةٍ أيضاً.