منذ أيام أرسل لي صديق صورة التقطها لي بينما كنا، في أحد الأيام، نجلس وندخّن، سألني: "هل تتذكر هذا اليوم؟". لم تكن صورة قديمة، لدرجة لا أستطيع معها تذكّرها، لذا بذلت مجهوداً كبيراً محاولاً استعادتها، فقط لطرد هذا الشعور بالغضب تجاه الذاكرة التي تريد فقط للأيام أن تمر، ثم تمحو نفسها سريعاً. سألني مرة أخرى: "لو لا تتذكر هذا اليوم، هل في أمكانك أن تشرح هذه الصورة لي؟". نظرت له ولم أفهم.
هذه صورة تجمعني بالمكان، غرفة على سطح البناية، أمر عليها دورياً، أفتح موتور الكهرباء، وأخرج منها سريعاً، أصعد سلماً حديديّاً مائلاً إلى سطح الغرفة نفسها، أقوم بفتح المياه في حوض يشرب منه الحمام، بعدها أهبط، وأشعل سيجارة، أحياناً أقوم بتحضير قهوة، في أيام الغضب، كنت أقوم بعمل تدريبات رياضية عنيفة في هذه الغرفة، فيها أيضاً كنت أفكر كثيراً، حاولت الكتابة ولم أستطع.
في أحد المقاهي سألني صديق آخر عن سبب توقفي عن الكتابة. قلت لا أعرف، أشعر أنني فقدت اتصالي بنفسي فخسرت لغتي، حتى أصبحت الكتابة مشروعاً صعباً جداً، لم أعد أشعر معها بهذا الشعور الذي يعرفه الكتّاب جميعاً: الشبع بعد إخراج تلك الأشياء التي تحتشد في رأسك إلى كلمات. أخرج صديقي كراسّة، وناولني قلماً، وقال "لو سمحت اكتب". نظرت إلى القلم في يدي ثم إلى الورقة الخالية، لا شيء يدور في رأسي، لا شيء، كتبت في صفحة: "الكتابة الآن، تحيلني إلى آخر، منّي، لا أشعر أنني أنتمي إليه في هذا الوقت". نظرت إليه، سألني أن اشرح له هذه العبارة بالكتابة، كتبت كلامًا كثيرًا، يدور حول معنى واحد، كان خطي فيها سيء، لغتي كانت ركيكة وأسلوبي مفكّكاً.
منذ عامين أو أكثر، سألتني ياسمين عمّا إذا كنت أريد الكتابة والنشر، كان رضا حريري يبحث عمّن يكتب من مصر، أدخلتني ياسمين إلى ملحق "شباب لجريدة"، وهناك بدأت تجربة كان أجمل ما فيها الحرية في كتابة ما نحب، دون قيود، كنّا نلعب بين المواضيع والملفات، سجّلنا مواقف متمردة تجاه أنواع السلطة الممكنة، كتبنا عن الثورة والجامعة والآخر وعن موقفنا من الله، قبل أن تظهر كتابات أكثر تماسكاً ونضجاً بالطبع. كانت مساحة الحرية تلك أكبر من المساحة التي كنت أملكها في حياتي في هذا الوقت، لا أملك الحرج الآن لأقول إنّني كنت أعوض هذه الفجوة بين المساحتين بالخيال، كنا نكتب ونكتب، ولا أدري لماذا، مرة واحدة توقف معي كل شيء وشعرت أن هناك شيئاً ما يتغيّر أو يتمزّق.
أتذكر سهرتي مع مجموعة من الأصدقاء بين حدائق المنتزه، كنّا نرقد على ظهورنا ونشرب، بعضنا يغنّي بينما كنا نشاهد السماء، كانت واضحة وصريحة، لا غيم، ولا رياح تدفعنا إلى أي شيء بعيداً عن الرؤية، كان القمر مكتملاً وساطعاً فيما يشبه حقيقة أكيدة، ومن خلفه النجوم. أشرت إلى بقعة مضيئة هناك وقلت لهم "هذه مجموعة الثريا". ردّ أحدهم متابعاً: "عنقود من نجوم زرقاء فتيّة ساخنة"، كانت عبارته الشهيرة، يردّدها مشدّداً على كل كلمة فيها، متمثّلاً الجديّة والحسم في هذه الديباجة اللغوية المفعمة بالحيوية والقوة والحقيقة. كنّا نضحك، لم نستطع أبداً، أن نتجاوز هذه السخرية العميقة الراقدة خلف العبارة.
لا أستطيع أن أفهم كيف يمرّ الوقت، سنوات مرت، منذ أن بدأت الأشياء كلها، لا أستطيع أن أقول بشكل واثق، في التسارع، لقد تداخلت فيما بينها، وظللت أحدّق، حتى أنّني فقدت الطريق محاولاً التمييز، كانت التفاتة وحيدة فقط بعيداً عن العالم وعدت لأراه قد ركض بعيداً، لم أركض بنفس السرعة، فقدت ذاكرتي وأنا مجذوب لهذا العدم المتشابك، تحركت بين غرف لا أراها، قرأت كتباً لا أتذكرها، خضت بين بنايات لا أكاد أعرف لماذا أمشي فيها، أحببت فتيات لا أعرفهن، قضيت أوقاتاً ضخمة بين أصدقاء، فقط لأتوقف في منتصف الطريق وأسألهم: "من أنتم؟". هكذا، ظللت، طول الوقت، لا أستطيع أن أرى الملامح الحقيقية للأشياء، كنت وعياً داخلياً مكثّفاً يحيطه عالم ضائع بين الألوان، كيف يمكن أن أعيد اتصالي بالعالم؟ فقدت لغتي، وصرت غريباً.
مرّت شهور طويلة منذ آخر نص كتبته لـ"شباب". حاول رضا معي مرات، أوافق، وأحاول، ولا أرسل له مادة مكتوبة. حتى أنّني بدأت أتساءل عما إذا كان قد كرهني. قرأنا أخبار توقف "السفير" مرّتين. كلّ مرة، كنت أحمل نفسي بالشدة لكيّ أكتب مرّة قبل أيّ وداع محتمل، إلى أن أتت هذه المرة بالحقيقة الأكيدة، ثلاثة أسابيع قبل العدد الأخير، وأنا أحاول، في كل مرة، لا أجد شيئاً. أكتب لنفسي قبل أن أكتب لقراء، شكوك لا تنتهي، لغتي، أيّ فكرة يمكن أن تفيد أحد، أيّ أحد. كنت أودّ، لمرة واحدة، أن أكتب كلاماً حقيقياً للنهاية. قال لي رضا إنّ هذا العدد هو الأخير. تنتهي هذه التجربة دون أن أنتهي معها، لم أوفّق أبداً في الإجابة عن أيّ تساؤلات. المخيف أنّ التساؤلات لم تكفّ أبداً عن المجيء، ظللت طوال عامين أود أن أقول لرضا إنّني لا أعرف، لا أعرف إذا ما كنت أجيد الكتابة، لا أعرف إذا ما كانت كل هذه العبارات كتابة فعلا أم لا. رضا، أنا فقط، بعد كل هذا الوقت، لا أعرف!