تبدأ قصة فيلم "The Words" برجل يحكي عن روايته من على منصة أمام جمعٍ من الناس، يدخل الفيلم في قصةٍ أخرى هي مجرد حكاية داخل خطابه، وفي داخل القصة تدور أحداث قصة ثانية حيث يكون بطلها كاتباً أيضاً.
بعيدًا عن مغزاه وحديثه عن "السرقة الأدبية" بشكلٍ درامي مميّز وعملٍ فريد، يبدو الفيلم تعبير مختلف عن الحياة.
كنت أيقن ولا زلت أنّ الحياة بشكلها الذي نعيشه عبارة عن دوامة من الحكايات والأوهام المختلفة، قصص داخل قصص، وجميعها تترابط في نهاية الطريق في نقطةٍ واحدة. كلٌ منّا في الحياة يختار طريقه، أو ربما الطريق يختاره، ترميه الحياة على ضفةٍ ما، فجأة ودون أن يقُرّر. هناك من يقبل بهذا الطريق ويكمل سيره فيه، ذلك أنّ المصادفة أرادت أن يتوافق وجوده مع هواء الضفة التي أوقعته الحياة فيها.
التناقضات جزء من حياتي، لذلك فكل شيء فيها يبدو غير واضح ومتناقض، متشابك، وأبدو دائماً بأغلب مواقفها كطفلٍ صغير يحاول إعادة شريط الكاسيت الذي فرط منه عن طريق الخطأ، خارج البلاستيك المخصّص له. تبدو الحياة كما أراها قد فرطت، انحرفت عن مسارها فجأة، ودون أيّ قصد، ومهمتي الوحيدة أن أحاول لملمتها كي تكمل سيرها في الاتجاه الصحيح، وكلّ ذلك يبقى على الضفة الوحيدة التي وقع فيها هذا الشريط.
***
لم أختر الكتابة، وربما اخترتها، لا أعلم، فهذا جزءٌ من تناقضات الحياة. قبل سبعة سنوات كان عدد من أصدقائي يمتلكون مدونات، يكتبون فيها مذكّراتهم ووقائع حياتهم، أردت أن أجرب الأمر فأنشأت مدونة وكتبت.
لا أقول إنّني اخترت الكتابة بدايةً. كانت رغبة طفولية من طفلٍ في صفه التاسع بالمدرسة، لا تتجاوز شغف تجربة شيءٍ جديد، كنت قد جربت قبلها أشياء كثيرة، التصميم باستخدام الفوتوشوب، كتابة بعض القصائد والخواطر التي تلقى استحسان معلمي اللغة العربية في المدرسة، واللهث خلف برمجة المواقع الإلكترونية وطرقها المختلفة.
ما هي إلّا محطات، مجرّد مقاطع بسيطة في شريط الكاسيت ذاك.
تعلّقت بالكتابة، كأنّ الشريط أراد أن يبقى على هذا المقطع. وقرّرت في النهاية أنّني أريدها، وأنّ هذا ما أردته.
لم أكن أكتب لسبب، ولربما حتى الآن أكتب لسببٍ معيّن، ربّما فقط لأنّها الوسيلة التي تُمكّنني من تخفيف وطأة الحياة. كنت أريد أن أقول إنّها الوسيلة الوحيدة، لكن هناك الأفلام والأغاني الجميلة، هناك الموسيقى وغيرها من الأشياء التي ما هي إلّا جرعات تخفف من الإحساس بالخراب المحيط بالحياة على هذه الضفة من كافة الجوانب.
لكن بالنظر لكلّ هذه الأشياء، ما هي إلّا عودة بشكلٍ أو بآخر للكتابة، فالفيلم كُتبت قصته، والأغنية كُتبت كلماتها، والموسيقى كذلك. تبدو الكتابة للحظةٍ ما أصل كلّ شيء. يُقال إنّ الله كتب كلّ شيءٍ سيحدث في العالم قبل خلقه، هذا يعني أنّ الكتابة كانت هي أصل الحياة، وكتابة القصص ليست إلّا بدايةً لشيءٍ ما.
***
ليست كل الأشياء قابلة أن تُحكى. كيف يمكن تفسير الذكريات التي تقتحم تفكيري فجأة؟ ذكرياتٍ عديدة ومختلفة من حياتي، ومن حياة أخرى. أتذكر أشياءً لم أعشها، أذكر فقط أنّها حدثت ولا أعلم كيف ذلك.
ذكريات من الأحلام التي كانت توقظني باكياً في طفولتي، أشياء أراها ولا أقدر على وصفها لأمي التي تمضي ليلتها في تهدئتي، وأنا مثلها، لا أقدر على فعل أمر آخر. فقط أبكي.
قد يبدو الأمر سخيفاً وغبياً، أن تحدّث أحدهم عن ذلك. في مقهى صغير وبين مجموعة من الناس، يمسك بعضهم بالسجائر ورؤوس الأراجيل، وغيرهم يلعب الورق، قد يقطع أحد الجالسين اللعبة بين يديه بضحكةٍ كبيرة، يظنك تحكي قصةٌ ما، أو تسرد أحداثًا من مسلسل الخيال العلمي الذي كنت تشاهده الليلة الماضية.
ما الفائدة من أن يكون الإنسان عاقلاً وسط كلّ هذا الخراب؟
بالتأكيد لا فائدة، وفي هذه الحالة تغدو تلك الذكريات أمراً جيّداً يدفع شخصاً مثلي للكتابة.
لا أجد في حياتي شيئًا يستحق الشغف أكثر من الكتابة. في الكتابة بهجة كبيرة. اللحظة التي تقدر فيها على كتابة نص، تمسك الورقة بين يديك، تقرأ وتعيد القراءة مرة أخرى، لحظة اكتشافك للنصّ، كأنّك لم تكتبه أبداً، كمن اكتشف منجم ذهب بعد تعبه الطويل في الحفر.