في كل صباح، قبل إغماضتي المتأخرة وقبل أن أدخل في غيبوبتي المؤقتة، أسلم نفسي طائعاً إلى إدمان الاستماع لهذا المقطع، لوهلة بدا الأمر كأني أسمعه للمرّة الأولى. هذه المرة كانت الدهشة أكثر من طازجة، أحببته كثيراً، تشاغلني الحيرة وتشغلني اللحظة كأنها معادة وكأنه قد خُيّل إليّ بأني قد سمعت هذا التسجيل مراراً قبل هذه اللحظة. لا أدري ما السر فيها، لكنها تعيدني إلى أماكن لا أصدق بأني كنت فيها قبلًا. "عم محمد"، الرجل الستيني، صاحب البقالة في الطابق الأرضي للبناء الذي نزلتُ فيهِ فترة زيارتي للقاهرة. كان منحازا "للكحلاوي" كثيرًا وبخاصة هذا التسجيل. كلما علا صوت الكحلاوي في حضوره كلما تمادت الذكريات في استحضار نفسها. بالكاد أحاول التنفس بينما تغمر الذاكرة روحي وتتسربل خلف حدودها، وتبدأ مشاهد أيام القاهرة بالتداعي أمامي متتالية دون أي أمكانية للتوقف. وبعد أن أصحو. أقفل عائدا إلى واقعي... إلى حاضري.
***
في صيف العام 2003 قدمتُ من دمشق برفقة عائلتي لقضاء بعض الشهور في القاهرة قبل العودة إلى غزة، حيث المدينة التي غادرتها العائلة في بداية التسعينيات. كان من المفترض أن تكون القاهرة محطة عابرة، ككلّ المدن التي دخلتها طفلًا. تمرُّ عليّ المدن ولا تمرُّ. أترك أثري فيها ولا تترك أثرها عليّ. كأنيّ أدركت لاحقًا حقيقة ما جناه عليّ تأخر وعيي بما يدور حولي. كانت القطيعة بيننا طويلة بسبب كثرة ترحال العائلة بين عدة دول وفي مدة زمنية قصيرة. لم أكن أتذكر شيئاً عن كلِّ تلك الأمكنة التي "أضعت" فيها سنين طفولتي. تلك الطفولة التي انسلّت من بين أصابعي، كما تنسلّ الخيوط من قطعة قماشٍ مهترئة. غادرتها دون أن أدخلها. حاولت كثيرًا أن أجترّ ذكريات الأصدقاء في المدرسة والجيران والحب الأول، وأسماء معلميّ في الابتدائية واسم سائق باص الروضة... كلها كانت محاولات عبثية. كأن ناقوس الذكرى يعرف أكثر مني، ولا يريد أن يدق على أماكن قد تفتح فيّ أشياءً لا أودها.
لا تسعفنا الذاكرة عادةً إلا بما يحزننا، بينما نتناول اللحظات التي نريد استعادة تفاصيلها باستهتار ونسيان. لكلّ هذه القطيعة مع الأمكنة، مع الشوق الناقص الذي لا أستطيع أن أرسمه. ومع كلّ تلك المدن التي دارت رحى قدميّ فيها. فقط بعض الشذرات نجت لربما لتحرمني النسيان وتجلدني بالفضول الأبدي. بعض الصور التي تشهد أني كنت يوماً هناك، وثلاث غرزٍ أسفل ذقني، طبعت عليّ كتذكار أبدي وهو كلُّ ما خرجت به من مصيدة الذاكرة. ترى هل وقعتُ في حب معلمة الابتدائية، هذا إن كانت معلمةً... أم معلمًا أصلًا؟
ستقضي العائلة عدة أشهر في مصر بضيافة أقاربنا، ثم سنعود إلى غزة، لكن لا شيء يحدث كما هو مفترض، في أول خروج لي مع صلاح ابن خالتي، بدَت الأمور وكأنها ستأخذ منحىً أخر، بدأ يتسلل إليّ شعور بالخوف من المدينة تارة، والانجذاب لصداقة صلاحٍ تارةً أخرى، عَرفت بأنَّه لن يكون عابرًا مثل أي شيء آخر. عرفتُ بأنه سيعلق في حبائل الذاكرة. بدأت أخرج أنا وصلاح كلّ يوم. صلاح الذي كان يكبرني سنّاً، دخل السينما قبلًا وشاهد مباريات كرة قدم مباشرة، وهي أشياء لم أفعلها، أو لم تتح لي الفرصة لأجربها. وجربتها هناك برفقة صلاح. كان صلاح يضع صور لشاب بشعر مجعد وملامح سمراء على جدار غرفته. فسألته وقتها «من هذا؟»، فأجابني: «الليلة بعرفك عليه»، كانت تلك الليلة موعد لمّة أصدقائه لمشاهدة أحد أفلام أحمد زكي التي كانوا يدمنون على مشاهدتها. كنا نخرج دائماً للسير في شوارع القاهرة، في زحمة النهار التي يكون فيها الشخص "لا أحد"، وفي أوقات متأخرة من الليل، عندما يرقد الأسفلت ليرتاح من وجع رأسه بينما يزعجه عابرون بؤساء بخطوات حزينة.
بمرور الوقت، توطدت علاقتي بالمدينة، حتى عند عودتي لغزة كنت أتمنى الذهاب لزيارة القاهرة. كانت المرة الأولى الذي تمنحني الحياة الفرصة -وليس الزمن- للارتباط بجغرافيا ما، هناك في القاهرة، في السينما وبجانب صلاح بالتحديد وأمام أحمد زكي كانت علاقتي الأولى مع مكانٍ ما، كانت تجربة مدهشة، بدأت أقف قبالة المدينة في خيالي مرتبًا كل ليلةٍ بصبر دهشة الطفل الذي كنته، فهنا تمتد المدينة وهنا تتسربل منها الشوارع كأنها القلب النابض. الناس كثيرون. مثل لوحة فسيفساء تشكل لوحة كاملة. المعالم في المباني تتحدث وتحكي تاريخًا لم أكن قادرًا على فهمهِ، ربّما لأني لم أقضِ وقتًا كافيًا لأتعلم لغة الجدران والأماكن. أما صلاح، فكان يتحدث إليها ويخبرني ضاحكًا بأن كل حجرٍ نمر عليهِ يرد علينا بالسلام ويخبره برسائل الشوق. كان يحاول اشعاري بأني أنتمي، ولا أنفي بأن قد حاولت، ولكن رغم الألفة، كنت أشعر دائمًا بأن هناك حاجز يفصلني. كأني ولدتُ لكيلا أنتمي. كأني ولدتُ مقطوعًا، وملعونًا بلعنة الترحال غير المقرونة بالانتماء لأي شيء.
صلاح، الذي كان يحب البحر، كان يذهب كثيرًا ليسبح ولم يكن يحب الجلوس أمام البحر بعكسي أنا –الطفل – تمامًا. كان يحب صلاح أن يتلوّى في لّجّة البحر كأنه حُورية. نعم كأنه نبتون ملك البحر. أما أنا فكان يكفيني أن أقف على شفتي البحر، وألعب بالرمل وأراقب اقتراب الموج برهبة أو بانتظار. واسألُ... ترى هل يعبر البحر الخط الذي رسمته بأصابع خائفة؟ أفكر بينما ينادي صلاح الذي يصارع البحر عليّ، «تعال تعال»، ينادي صلاح وأنا أستمر في خوفي. ظل صلاح ينادي بأبدية بينما كنت أنظر أنا إلى الخط الذي رسمته للموج/ لنفسي وأتجمد في مكاني. في يوم من أيام صيف العام 2007 وبينما كانت الشمس توشك على اللجوء إلى البحر بشوق، ذهبتُ للسباحة مع صلاح، أو هكذا أدّعي، وكعادتي رسمت الخط وبدأت بمراقبة الموج، ركض صلاح للسباحة، قفز في البحر كسمكة. لم ينادِ عليّ هذه المرة. غطس. غطس إلى الأبد. لم يعد. ولم أتجاوز الخط منذ ذلك اليوم.
***
في شتاء العام 2013، "الطفل" الذي لم يعد طفلًا، وأشك كثيرًا أني كنت طفلًا يومًا، قرّر أن يذهب مع صديق له لزيارة القاهرة وزيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب. يومها، كانت الشوارع غريبة. كلّ شيءٍ غريب عني مجددًا. غاب نجم صلاح هذه المرة. كان محاصرًا بالذاكرة. عدتُ إلى غزة هاربًا، ألقيتُ بجثتي الهشّة في المقعد الخلفي. صوت المدينة يخرج من رقبتي. معاجم الكلمات البذيئة تطفح من فمي. «أقلم اللحم حتى أبلغ الأظفار». في تلك الليلة الحالكة، هوَت المدينة من ذاكرتي كذراع نهر الليل حين يصبّ في البحر. المدينة التي أودعتني قلبها قبل سنوات، تلدغني الآن... في وحل العتمة.
علاقتي الأولى –كطفلٍ– بالأمكنة /المدن/ المجهول لم تعُد موجودة الآن. والمُدن التي لا يمكن لها أن تموت لا يراها القلب. لقد ماتت القاهرة في قلبي الطِفل فقط لأنّ صلاح كان الروح التي تمسك خيطَ ذكرياتها.
لا أدري إن كنتُ هذا الرجل الذي أنا عليه الآن إن كنت سأنسى صلاح. في غمرة كلّ شيء وعقلي عالقٌ ويهرب إلى اليوميِّ -مهما كان بائسًا- من ذلك الأبدي الذي يسميه مجازًا صلاح. لا يطرق الذاكرة إلا ما قاله رياض الصالح:
«هذه مدينة مليئة بالشوارع
شوارع مفتوحة
تؤدي إلى جميع الجهات
لكن، اسمعني، أرجوك
حياتنا مغلقة
والشارع الوحيد العادل
ذلك الذي يأخذني إلى قلبك».
إنه يرسم الخط، يتذكر، يرسم الخط، يحاصر الذاكرة بينما تحاول الهرب منه، هذه المرة سيعبر الخط، منتحرًا بلا شك.