"شهر الاعياد" هي احدى التسميات التي ينسبها العالم لاخر شهور السنة ففي هذا الشهر وتحديدا في الربع الاخير منه يصادف عيدي الميلاد ورأس السنة الميلادية..العيد الاول هو عيد ولادة عيسى نبي الله والثاني هو الاحتفال بالانتقال من عام الى عام. فاذا ما اعتبرنا ان الاول هو موعد للصلاة والتقرب من الله وعمل الخير حسب تعاليم صاحب العيد فان ما يتطلبه العيد الثاني لا يجوز ان يتخطى فكرة شراء روزنامة جديدة (بعيدا عن الهواتف الذكية) و الانتباه لعدم كتابة ارقام السنة المنصرمة عند اي تأريخ خلال الايام الاولى من العام الجديد. لكن للمفارقة, يفقد هذين العيدين مبدأهما فتظهر تسيمة "موسم الاعياد" التجارية جدا فيتحول العيد من فرصة ايمان ومحبة وصلاة الى فرصة استهلاك وصرف وبدل ان يمتلأ قلب الانسان بالايمان الكبير تمتلأ حيوب التجار (الكبار منهم) بالنقود..فأين جوهر العيد ؟
لا شك ان كل عيد ديني كان او وطنيا ام شخصيا هو فرصة للفرح والاحتفال ولكن للاسف اصبحت هذه المشاعر مرتبطة بشكل وثيق بما نستهلكه في العيد فتحولت الاعياد الى فرصة ذهبية للتجار لافراغ جيوب الناس مقابل بيعهم ما صوروه على انه مصدر فرحتهم.. انه الاستغلال بأبهى حلله.
تكمن المشكلة الاساسية في ان الانسان ذات القدرات المادية الضعيفة سوف يشعر كل الوقت بالنقص والضعف اتجاه نفسه وعائلته فالفكرة المزروعة في عقولنا هي اننا اصبحنا امام حلين : اما ان نستهلك ونشتري كل ما في السوق على الرغم من قدرتنا وقناعاتنا او نصبح خارج منظومة الاحتفال ولا يحق لنا ان نفرح لا بل نصبح دخلاء على المجتمع وجب شطبنا منه.
لنعد للتركيز على "موسم الاعياد" فهذه الفترة لعلها الفترة التي تشهد اعلى مستويات الاستهلاك والصرف فيها يكون بأغلبه مبالغ فيه غير مبرر ولا حتى مرتبط بجوهر العيد بل يناقده تماما.
الاحتفال بميلاد من ولد فوق كومة قش في مغارة لا يجوز ان يكون بهذا الشكل من اظهار الغنى والنقود..الاحتفال بميلاد من اعتاش على الطعام البسيط لا يكون بمد الولائم والتفاخر بما تضمن سفرة كل منا طعاما اكثر ومشروبات افخر والتباهي بها امام الناس..حين يدعو الله وانسانيتنا الى مشاركة الطعام طبعا لم يكن القصد مشاركته في وسائل التواصل الاجتماعي عبر صور بلهاء بل عبر اطعام غيرنا مما لا قدرة لهم على ابتياع قوتهم..كم من فقير نستطيع اطعامه من مائدتنا "الغنية" فنرضي انسانيتنا ونطبق روح العيد ؟! في الصلاة ندعو الرب ان يعطينا خبزنا كفاف يومنا..الكفاف هو ما يسمح لنا بالشبع فأليس من المنطقي حين يعطينا الله اكل يكفينا ويفيض منه ان نشاركه مع غيرنا ؟!
يمتاز عيد الميلاد بأنه عيد المشاركة والعطاء حيث يشتري كل شخص هدية الى من يعنيه من اشخاص ولكن مذ متى اصبحت هدايانا وعطاءنا للاخر يقاسوا بسعرهم او بماركتهم ؟! فكرة الاهداء واظهار الحب بهذه الطريقة هي فكرة نبيلة جدا لكن للاسف اخذ التجار (الكبار) النبل من هذه الفكرة وحولوها الى فرصة لمضاعفة حساباتهم المصرفية على حساب المستهلك الذي يظن لبرائته انه بهذه الطريقة يظهر حبه ويمارس عطاءه للاخرين. بما ان اعلانات اغلب التجار تركز على ان العيد هو فرصة للمشاركة والعطاء والاخلاق فلماذا يا ترى لا نرى الحسومات الا بعد انتهاء فترة الاعياد ! اذا كان يهتم هؤلاء فعلا بمعنى العيد لا بجشعهم فلماذا لا نراهم يقومون بالحسومات خلال فترة الاعياد فينتفعوا بما يرضي ربهم (المال) ويعطوا فرصة لذوي القدرات المالية الضعيفة على الشراء كغيرهم بدل ان يشعروا انهم اقل من غيرهم وانهم على هامش المجتمع منسيين وهذا ما يخالف جوهر فكر صاحب العيد.
لاستكمل سطوتهم, يلجأ هؤلاء التجار الى تكوين تحالف مرعب بينهم وبين وسائل الاعلام فهذه الاخيرة الطامعة بأموال المعلنين (التجار) ترتضي لنفسها ان تصبح منبرا يبث افكار شياطين التجارة والمال ليعرضوا منتجاتهم الفاخرة بالاغلب امام مشاهدين فقراء بالاغلب فتتحول من شاشة مربعة صغيرة الى الة غسل دماغ تقنع المستهلك (الفقير غالبا) بأن ما يعرض امامه هو خياره الاوحد للشراء في العيد او سيتم تصنيفه في خانة المرفوض اجتماعيا..انها مافيا.
المضحك في الموضوع هو ان نفس هذه المحطات لا تترك فرصة الا وتبث من خلالها كلمات ووعظات دينية يتعارض مضمونها تماما مع ما يعرض من منتجات وتشجيع للاستهلاك والبزخ..اليس من الافضل لهذه المحطات ان تقوم بالسماح للتجار الصغار والافراد منهم بعرض منتجاتهم على شاشاتها بأسعار بسيطة تلائم قدراتهم وتتناسب مع شعارات العطاء والاخلاق التي تعرضها المحطات طوال الوقت؟ للمفارقة منتجات هؤلاء التجار واسعارها البسيطة تكون عادة الاكثر ملائمة لقدرة المستهلك ورغباته.
ليست مافيا التجار-الاعلام المسؤولة الوحيدة عن حالة الاستهلاك الجنوني الذي نعيشه في هذه الفترة فالمستهلك نفسه شريك في عملية الاحتيال التي تمارس عليه. على الرغم من قوة غسيل الدماغ والتوجه الاستهلاكي الذين يتعرض لهم الفرد الا انه هو نفسه الذي يردد اقوال الانبياء والله عن الفقراء والمشاركة والعطاء بغض الغنى, هو نفسه من يستهلك ويتباهى باستهلاكه المفرط, هو نفسه الذي يمد الموائد ويرمي نصفها, هو نفسه من يشارع التاجر الفقير للحصول على حسم دسم فيما يتفلخر بصرفه للشراء من الماركة العالمية هذه او للعشاء في المطعم الفاخر ذاك. نحن المستهلكون مسؤولون لاننا نعلم جشع التجار وقلة اخلاقهم فيما نحن نفسنا نذهب بملء ارادتنا لمنفعة هؤلاء لا لشيء سوى للقول بأننا مميزون وندفع ونشتري ونستهلك..ما هذا الفراع المرعب الذي نعيشه ؟
للاسف, ان بابا نويل الذي هو بالاساس فكرة انتجتنها احدى وحوش التجارة في العالم بهدف تسويق نفسها فأصبح عنوانا للهدايا ومرتجى اطفالنا ..نعلم جميعا انه لم يعد ذلك العجوز الضخم ذات اللحية البيضاء والملابس الحمراء بل اصبح تاجر (او شركة) غني ببدلة و ربطة عنق يصنع ما يحلو له من هدايا ويستعين بالاعلام فيغسل دماغ الاطفال لتطابق رسائلهم اليه ما يصنعه فقط..اصبحت عربته الطائرة مركزا تجاريا فاخرا تفوح منه رائحة العطور الفاخرة والادمغة التافهة المتعطشة للاستهلاك..واصبح الاقزام مساعديه موظفين بدوامات طويلة ومداخيل قليلة كالات لا احساس لها. في حالات كثيرة تلجأ اهم الشركات العالمية الى عمالة الاطفال..للسخرية طفل صغير يعمل في معمل بأقسى الظروف ليصنع لعبة لصغير اغنى منه تمناها فحققها له بابا نويل (ذات ربطة العنق) لاسعاده وحباً منه للطفولة كما قال في اعلانه على المحطة المأجورة !