يوماً ما كنا نملك الكثير من الأسباب لنعارك طواحين الحياة، واستعداداً كاملاً لخوض غمار معاركنا الصغيرة بلا أيّ اكتراث للنتائج، لنحظى مثلًا بمباراة كرة قدم.
يومها كنا نذهب، أولاد حارتنا، إلى إحدى المدارس القريبة من منطقة سكننا. تختلف الأيّام وعدد ساعات لعبنا بين فترة وأخرى، هذه الأمور كانت خاضعة بشكل أساس لاتفاقيات كانت تُعقد مع أبناء الحارات الأخرى في المنطقة. كان نصيب كل حارة يوماً أو يومين من كل أسبوع، كثيراً ما كانت إحدى الحارات تخرق هذا الاتفاق، هذا الاختراق على الدوام يجترّ معه معركة لا بدّ منها، يتبادل فيها أبناء حارتين أو ثلاث الحجارة وزجاجات العصير الفارغة وسيلاً من الشتائم. فيصدر قرار حارس المدرسة بحرماننا من اللعب لأسبوع أو أسبوعين. هذا الأمر لا يقتصر على منطقتنا، هذا حال كلّ مناطق رفح. هنا، يحتلّ النشاط الكروي مساحة كبيرة من يوميات أهل المدينة. لذلك لا عجبَ من رؤية أندية مدينة رفح تتصدّر عرش بطولات الكرة في القطاع. وأنّ أحياء المدينة تنبت، وبشكل دائم، الكثير من اللاعبين الجيّدين. إحدى أبهى صور هذا النشاط هي الحضور الجماهيري القوي والمميز لمباريات أندية المدينة في «الدوري الفلسطيني الممتاز لأندية قطاع غزة»، الحضور اللافت في المدرجات، جاء بعد أن شهدت بطولة الدوري انتظاماً في السنوات الأخيرة، حيث تُعتبر نسخة البطولة المقامة حالياً، والتي انطلقت في التاسع من أيلول الماضي، النسخة الثانية عشرة فقط منذ انطلاقها في العام 1981. وتمثّل أندية مدينة رفح منافساً قوياً على البطولة منذ انطلاقها. حيث يتصدّر قائمة أبطال الدوري نادي "خدمات رفح" بأربع بطولات يليه الوصيف نادي "شباب رفح" ببطولتين، ويتصدّر قائمة أبطال كأس غزة برصيد أربع بطولات.
مباراة فريقيْ المدينة هي الحدث الكروي الأهم ربّما على الساحة الكروية الغزيّة، يتدفّق المشجعون من كل أنحاء القطاع لمشاهدة المباراة. عليك أن تأتي إلى الملعب قبل ساعتين أو ثلاث، وإلّا فلن تجد مقعداً لا على المدرجات، ولا أمام الأسلاك المحيطة بالملعب، ولا على جدرانه المكسوّة في هذا اليوم بعشرات المشجّعين. في أيام كهذه تشكّل المدرجات اللوحة الأجمل والأكثر سحرًا. بقيادة وتوجيه روابط المشجعين. هذه الروابط المتأثرة بشكل واضح وجليّ بنمط تشجيع روابط الأندية المصرية، صور هذا التأثير تمتد في الأغاني والأهازيج التي يشدون بها، وكذلك في الشعارات واللافتات. ستسمعهم يغنون أغاني "ألتراس الأهلي" مع إضافة وتغيير بعض الكلمات، بما يتناسب مع فريقهم. في كل مباراة تصدح المدرجات بأغانٍ من قبيل «من تالتة شمال»، «وقول الحق» وغيرها من أغاني روابط مشجعي الأندية المصرية. التأثر بنمط التشجيع المصري تبدو أسبابه غير خفية، فمتابعو الكرة المصرية كُثر، وإن شهدت هذه المتابعة انخفاضاً كبيراً في السنوات الأخيرة لصالح دوريات أخرى كالإسباني والإنجليزي، وأحد أسباب ذلك هو تعطل النشاط الكروي المصري بعد مذبحة بور سعيد.
المدرجات كرحلة للذاكرة
تشهد العلاقة بين جماهير الفريقين الكثير من النديّة. ازدادت الأمور سخونة هذا العام قبل انطلاق الموسم، بعد انتقال نجم "خدمات رفح" اللاعب سعيد السباخي إلى الغريم "شباب رفح". صدمة أصابت جمهور الفريقين بعد هذا الانتقال. كانت صفقة غير متوقّعة ومفاجئة للجميع. بدا واضحاً غضب جماهير "خدمات رفح" على لاعبهم السابق، فيما يعيد للأذهان انتقال البرتغالي لويس فيجو من برشلونة إلى ريال مدريد، بينما احتفت جماهير "شباب رفح" به لما يمثّله من إضافة هامة لتشكيلة الفريق.
يتحدّث محمد بشير (22 عاماً)، وهو مشجّع لـ "شباب رفح"، عن أوّل مباراة كان قد شاهدها في دوري غزة، والتي جمعت بين الفريقين، «سحبني يومها طوفان المشجّعين المتدفقين إلى الملعب البلدي. رؤية العشب الأخضر والمدرج بعثت في نفسي السرور والبهجة، بالرغم من بساطة الملعب. وجدت نفسي محشوراً بين مشجّعي الشباب وأردّد معهم الهتافات. سحرتني الحالة واللون الأزرق وحماس الجمهور».
كانت هذه المباراة بداية متابعة بشير لدوري أندية غزة، وتشجيعه لنادي "شباب رفح". وإن كان حضوره لمباريات فريقه غير منتظم، في ظل عدم قدرة ملاعب غزة على استضافة مباريات في المساء لانعدام الإمكانيات. ممّا يحصر أوقات المباريات في الظهيرة، وهي الفترة التي يكون خلالها كثيرون مشغولين بأعمالهم وجامعاتهم.
أبو خالد، في الستينيات من العمر، أحد مشجّعي "خدمات رفح"، يملك محلاً في الشارع المقابل للملعب البلدي في المدينة. في الأيام التي يلعب فيها ناديه، يغلق محله ويذهب ليأخذ مكانه في المدرج.
بدأ أبو خالد علاقته مع مدرجات كرة القدم في القاهرة، حيث كان يكمل تعليمه الجامعي. يملك أبو خالد أسباباً خاصة للذهاب للمدرج، قد تبدو غريبة للبعض منا، يقول أبو خالد: «بروح أقعد بالمدرج، لأنو بشوف شبابي هناك، كل مباراة لخدمات رفح، هي فرصة ورحلة للذكريات، بتذكر أصحابي بالجامعة، بتذكر روحتنا على الملعب كل أسبوع، بتذكر القاهرة. اليوم كل أولادي انشغلوا عني، أصحابي بطّلت أشوفهم، ظلت الكورة هي أنيسي».
(غزّة)