مذ أن تطئ يمناك في تلك البقعة الجرداء على مستهلّ الواجهة البحرية، قرابة وسط المدينة الصاخب ،حتى يوافيك ذاك السكون المستفزّ المحيط.. فتراك عالقا في تناقض صارخة معالمه، بين ذلك المدّ الحضاري الاستهلاكي بطابعه، و تلك المشهدية الثقافية السنوية ، التي كان يتراءى لك أنّها أجلّ من أن تخضع لعرف المظهر الاجتماعي المزيف ، أو على الأقل أشد وطئة من ذاك التناقض المغرض. وحده اسم معرض بيروت العربي و الدولي للكتاب، يعيد للحدث جل اعتباره و مهابته، ما يكفيه لكي يكون واحدا من أكثر المعارض المرتقبة و الفاعلة سنويا.
لا عليك، هذه هي بيروتك التي تحبها و هذا هو الحال، ولا تغيير في مفهوم الفوقية المتأصّل في بعض ساكنيها قد استتبّ.. جد لنفسك صاحبا و استعدّ للانتظار طويلا ، على أمل أن يعطف بك سائق عمومي. اغدق بمالك الأضعاف حتى تصل من أطراف المدينة أو ضواحيها ، إلى مقصدك المنشود، لأنك بالتأكيد لن تجد معرضا ثقافيا و لا مسرحية فنية معتبرة هناك حيت تمكث مع أقرانك من ذوي الدخل المحدود.
المدخل الزجاجي المهيب لا يعنيك ، ولا ضخامة المبنى و اتّساعه، وحدها تلك الرفوف المصقلة و المعلقة بعناية تستهوي اشتهائك العبثي لكدسات الكتب و الروايات المعروضة . لعلّك تستنجد ببضع روايات لكافكا أو غوغول كي تفض عنك لهفة الفضول المربكة، أو تنتقي بضع كتب فلسفية و سياسية حبّا بالاستطلاع كما الإطراء ، أو حتى تلك التعليمية الترفيهية .
لا يهم، فالغرض الأساسي من حضورك هو الاحتكاك المباشر مع تلك الروائع المجلّدة ، و المحاولة على تقدير الجيد منها من الأقل جودة، لأنك تعلم جيدا أنه لا وجود فعلي لما يسمى بكتاب سيء في المجمل، فحتى الرداءة قد تؤدي بك أحيانا إلى معارف جديدة.. يتضح لك في خلال تجوالك المشتت هذا، أن بعض الوافدين ما جاءوا إلا رغبة في التعرف على عالم المثقفين الغامض بشكلياته، لعلّهم يستنبطون ما الذي يميز متعجرفي القبعات أولئك. كما أن البعض هنا "ضيوف شرف" يبتغون التنزه و التنقل العشوائي بين أجنحة دور النشر أو مجرد الانخراط بالجموع، وهناك من يفرطون في مراقبة الكتب و معاينتها، و لن تدري إن كان ذاك بذريعة الحيرة الحقيقية ، أو أنّ أثمان الكتب قد أرهقت جيوب الوافدين ،فلا عروضات أو حسومات تذكر،وبات الاكتفاء من الكتب مستحيلا؟
يستوقفك الفراغ المهيمن في أجنحة بضع دور نشر هنا و هناك، فلا شار و لا مبيع ، في حين أن بعضها الآخر يعجّ بروّاد الكتب و المشترين، وقد يعود ذلك لتعلق البعض بدور النشر المهمة كالآداب و نوفل، أو ربما هي مسألة تضارب مع وفود أحد المؤلفين للتوقيع.. و هاك تسمع بأسماء مؤلفين جدد، ما وقعت على سمعك و لا ألفتها سابقا، فهل أن عملية النشر و الطباعة باتت من السهل الممتنع ، حتى صار لكل هاو محلق في سماء نرجسيته مؤلفات و ألقاب؟ أم أن القدر قد سخا علينا بعدد هائل من المحللين و المتفلسفين المزورين ، و لسنا ندرك حجم هذه "النعمة" المستجدة
لو أردنا العبور إلى خضمّ نوعية الكتب المطروحة و جودتها، بالأخص العربية منها، فلا عجب أن يستهجن الواحد منا من كتب المبيع الأكثر، الرقيقة المحتوى والتي تنتمي بصلبها إلى الأدب الزائف البديل. و بالرغم من أن هؤلاء الكتّاب قد أحسنوا الصنع في صياغة رواياتهم و اجتذاب فضول القارئ و أهواءه عبر التسلية و الحسية و الإثارة ، كما و ترقيع الواقع أمام ناظريه ، إلّا أن الغاية الترويجية بيّنة أمّ العين، وهنا لك أن تستخلص حجم الأزمة الثقافية التي تلازم الأدب الحق في هذا المجتمع البائس.
و في حال لو دققت في طلائع الزائرين، للفتك التفاوت في العرق و الجنسيات،ما يتناسب بطبيعة الحال مع وجود خمسة و سبعين دار نشر عربية مختلفة، إلى جانب مئة و ثمانين منها لبنانية. و مما لا شك فيه، أن هذا التداخل الحضاري الثقافي يضفي نوعا من الهيبة و التنوع على المعرض المرعي من وزارة الثقافة نفسه، مرسخا دور بيروت الدائم في تتويج الالتحام الثقافي العربي ، وجمع المتناقضات عبر العصور.
أما و عند مرورك بين الكتل البشرية المتزاحمة ، قد تعبر على مرآك وجوه معروفة أو شبه معروفة ،من مثقفين و فنانين فصحافيين، و قد يصادفك واحد من النفاريش (nouveau riche)، محاطا بجموع من الحراس ضخام البنية، يتلوى بسيره متعجرفا، و كأنه القداسة إن هجرت المعسكر السماوي ، لتلتحق بصفوف البشر و الرعاع..
لعلك تستعجب من التراجع اللافت في الإقبال إلى المكان الذي كان الازدحام فيه عارما في السنوات الفائتة،لكن لا بأس مادمت اصطدت عدة خيارات موفقة ، و المعرض ما تخلّى ،في الحقيقة ،عن جوهره الجماهيري، إذ أن البرنامج الثقافي الذي يرافقه، متنوع في مضامينه، بين ندوات و محاضرات، و مناقشات، فتواقيع لجديد المنشورات والمطبوعات.الأمر الذي يشيّد تفاعلا تلقائيا بين القراء و "أصحاب الكار" ، معزّزا القيمة المعنوية للمعرض، على غرار المادية منها.عدا عن مساهمات الإعلام و التواصل الاجتماعي البارزة في تغطية الحدث و توسيع أصدائه بين مختلف الفئات الشعبية و العمرية.
إن الفحوى من القراءة و شرع الوصال مع الكتب بعامتها، لا يحد من وطئتها مكان أو زمان محددين ، لذلك لا يجوز حصر قيمة الكتاب الكلية ببضع تجاوزات أدبية ، و لا تغليفها بحدث ثقافي واحد. و عليه يجدر لفت النظر إلى أنه و بالرغم من التدهور الثقافي الذي يكابده الأدب العربي في ظل موجة الصفاقة و الانحطاط الكاسحة، بالتوازي مع تفشي ظاهرة المطبوعات الالكترونية ، و التحميل الفوري للكتب عبر الانترنت، لا يزال الكتاب الورقي يشكل في بنيته و محتوياته، مرتعا خالدا للثقافة ،ومعقلا للمثقفين والفانيين عمرهم علما و تنقيبا في خبايا المعرفة، لا صحة في الاستغناء عنه، أو الاستعلاء على فضله .