تأخّر موعد السّفر. الحقائب الموضّبة ما عاد ينقصها شيء، سوى إقلاع الطّائرة إلى إيران، حلمه أن يكون مهندساً، صار حلمه هدفي أنا وزوجي،إنّه علي، والابن البكر، كنّا نجتزئ اليسير من الرّاتب كل شهر منذ السّنة الثّانويّة الأولى، لنتمكّن من دفع ما يترتّب للجامعة، مرّت أيّام الضّيق مغمورين برحمة الله راضين بقضائه، لكنّه الانتظار مُربك، كان يُشغل أوقاته بالأنشطة الكشفيّة والتّعبويّة، ريثما يحين وقت السّفر، لم يكن يغادر المنزل إلّا لمهام العمل أو إلى المسجد.
كان رفيقي معه تحلو السّهرة وتطيب قهوة الصّبحيّة ويأنس الحديث. كان سلوة لي من الله، لكنه صار أكثر من ذلك، صار عمره ثمانية عشر عاماً، وازددت تعلّقاً به حدّ الهوس، كيف أغفو تلك اللّيلة حاضناً رأسي يداري روعي " يا ماما نامي". كيف أغمضُ جفنيّ؟ سيغادرني فجراً إلى سوريا، " وماذا عن إيران؟ ماذا عن الهندسة؟ "، " تتصلي بالحاج، عنده علم بالموضوع، أمر العودة ميسّر".
ما كسرني تلك اللّيلة أني ما كنت أملك ما يكفي لتحضير طبق الوداع، " صحن من الأرز المفلفل"، وحده كان وجبة الغداء، ليتني مُنحت يوماً آخر، لأُعدّ له غداءه المفضّل، أصلاً لم يكن يصرّح بما يحبّ، كا ن يحتضنني فقط يُقبّل رأسي:" القعدة معك ماما أطيب من كل أنواع الأكل".
أنا لم أطلب منه عدم الذّهاب، وبي غبطة أسررتها عنه، "نيّالو، بعين الله "، " خفّف ربّ عنه قساوة البرد".
أحتضن رأسه، وأصابعي تداعب شعره الأشقر، دموع من كلّ ناحية مني" حبيبي يا ماما". لم تكن عادته كثرة الكلام، لكنّه أكثر منه ليشغلني عن همّي، ظنّ أنّي لم أسمعه وهو يودّع والده على الهاتف ( والده مجاهد في حلب)، بصوته الخافت" دير بالك على ماما".
الحزن الّذي احتشد تلك اللّيلة في سريري، أشعل في رأسي آلاف الاحتمالات...أحدها لم يكن دخيلاً..
بعد ثلاثة أيّام من غيابه، عاد زوجي من حلب ، عودته في غير وقتها، ..أطلت الوقوف منتظرة شفتاه لتنطق بالخبر الّذي أخشاه..." أيه ....علي راح....
وأقلعت الطّائرة بزملاء الدّراسة إلى إيران، آخذة معها حلم علي...وتاركة في قلبي غصّة الانكسار...والحقائب الموضّبة في زاوية الغرفة...
" تليق الجنّة بالقلوب المؤمنة الطّاهرة....الرّاضية بقضائه...الصّابرة...تليق بهم شهادة عليا من الله...ونفس مطمئنة بجوار ربّها راضية مرضيّة"...