لم يكن ما يمنعني من الانتحار جبني فقط، كان المستقبل أيضًا. جبني بشريٌ جدًا وواضح أما عن كيف يمنع المستقبل المرء عن تحقيق شجاعته الأولى أو هربه الحقيقيِّ الأول فهذا ما تشرحه السنة التي ضحكت ضحكاتها بوجهي وبكت دموعها بعيوني. قبل سنة، سنة كاملة وعجيبة، كنت في طريق الخروج من غزة، وهذه جملة دبلوماسية تتسلل بصمتٍ مجرمٍ بين لفظتي الانعتاق والهرب. في مثل هذه الأيام بدأت تلك الرحلة إلى "المستقبل" –أو هكذا تمنيت، حملت خطواتي بصعوبة في طريق الآلام الغزيِّ الذي أعترف أنني حاولت أن أنساه، هربت من الكتابة عنه رغم أن الذاكرة والعيون المشفقة ظلت تحاصرني به. سافرت، بدأ اغترابي بعد مخاضٍ استمر ثلاثة أيام بلا نومٍ أو طعامٍ كافيين. لاحقًا كان من الصعب أن نشرح للعيون الفضولية أن الرحلة من غزة إلى تركيا يمكن أن تزيد عن ساعات معدودة أو أن العودة في الاجازة الصيفية خطوةٌ غير مضمونة، أشرح ذلك بينما أحاول باستماتةٍ الهرب من العيون الفضولية المشفقة ومن الذاكرة ومن الأصوات داخل قلبي التي تخبرني أنه ويومًا ما سنبني من حجارة كل هذه الطرق المجبولة من دموعنا، أحلامنا، لعناتنا وبل دمائنا جنتنا\قبرنا!
كان التعب يسرق وعيي وتكاد الريح إن غضبت قليلًا أن تهدمني، لم أكن أصدق، طنين أذناي يغذي صداعي بينما تأخذ الطائرة بالتحليق. القاهرة من السماء لا تشبهها في الذاكرة أو في خيالي، كانت جميلة، أجمل منها في الحقيقة ربما. طنين أذنيَّ يزداد، يصعد الصداع عرشه وعقلي لم يكن يستطيع أن يدرك كل هذه التجارب المتتالية أما قلبي فكان معلقًا على النافذة، أردت أن أظلَّ معلقًا في السماء إلى الأبد، ألَّا ألمس الأرض، أتأملها وأفرغ فاهي دهشةً وأنا أمد يديَّ محاولًا امساكها، يخو من ذلك المجنون الذي يريد أن يمد يديه ويمسك الجبال في قبرص كما لو أنها لعبة؟ كان ذلك قلبي!
وصلنا متأخرين عن موعدنا شهرين كاملين، متعبين ولا نصدق. لقد خرجنا بعد انتظارٍ يقوي اليأس على حصتنا المحدودة من أكسجين الأمل، تجاوزنا طريق الآلام، ركبت الطائرة للمرة الأولى، وصلنا! في إسطنبول كان كل شيء غريبًا، أو ولأكون صريحًا لم يكن لدي الطاقة الكافية لاستيعاب كل تلك الأشياء من حولي، استهلكتني الرحلة ودهشة الطائرة. يخو، تعال نضحك معًا عليّ، لقد خرجت أبحث عن عبيدة وعوسج تاركًا حقيبتي في داخل المطار! في الحقيقية لم يُعدني من حالتي ما بين الصحو والنوم إلا النوم قليلًا وصينية البطاطا بالدجاج المقدسة من أيدي أبو النجار، أذكرها كما ولو كانت على فمي الآن، أذكرها، تذوب وترود الروح بعد أيامٍ لم يكن بجواري فيها إلا الماء والمسليات والقليل من الجبن، ولكنها في الحقيقة أيضًا كانت عودتي الأولى لاستيعاب الأشياء ولعدم التصديق أكثر، هل أنا قد وصلت؟
وصلت، وصارت سنة كاملة على وصولي، ما عشته هنا بالتأكيد لم يكن سنةً لكنه أيضًا ليس عامًا كما تخيلت، هذه تجربة مدهشة، جميلة وصعبة أو أن كل الأساطير التي تصاحبنا كغزازوة عن كون الخروج\الوصول هو الأصعب لم تكن بتلك الدقة. في الحقيقة لا يساوي منظر الشمس إذ تكمل لجوءها الأبدي في بحر النصيرات إلا منظر الثلج بينما يستلقي بدلالٍ على قمم الجبال مقابل صكاريا، هذه فكرةٌ ما كانت لتخطر ببالي قبل سنة كاملة، أنا مندهش وأحدق في السقف الأبيض أعلى سريري باستغراب.
منذ البارحة وأنا أحدق في السقف الأبيض، هذه عادةٌ لا أعرف متى اكتسبتها وأحاول بفشلٍ الهروب منها. السقف أبيض مما يجب، أترك كل شيء بينما يتنازع الخيال والذاكرة على دفة عقلي. هذه معركة الماضي وذكرياته وهروبي منه أو لجوئي إليه مع المستقبل وخيالاته: سوداويته وأمله، وأنا ضحية كل ذلك، في منتصف الهرب ومنتصف العودة. هذا ليس صراع ندم، لا أشعر بالندم لكننا في الكثير من الأحيان لسنا سوى ضحايا "لو" والخيارات والشوق إذ يحاصرنا اليأس والتعب.
لستم تعرفون ماما ولا أصدقائي ولكنه محزنٌ أنه صارت سنة منذ لم يعد بإمكاني أن أعترض على الطعام التي تعده ماما، أو منذ صرت أشتهيه. منذ سنة لم يعد باستطاعتي أن أجلس قبالة بحر غزة، عند "الكبينة" ذات الرقم 2، متأخرًا بدقائق قليلةٍ على أسامة ومحمد وبينما ننتظر جميعًا أبو الوليد، ملك متأخري العالم، ريثما يأتي. صارت سنة منذ آخر فرصة كان بإمكاننا أن نلعب الشطرنج معًا أنا وعز الدين. في الحقيقية أنا آسفٌ لماما التي أعطت اثنين من أبنائها للمسافة، لنفسي التي يذيقها اليأس كل مدةٍ آلامًا لم تجربها قبلًا ولأصدقائي. هذا هو الإنسان: متناقض وبائس ومحاولة فهمه لا فائدة منها. لست أفهمني وتركت محاولة فعل ذلك منذ زمن؛ ما الفائدة في فهم قلبٍ لا يطيعك؟ ها ما الفائدة؟! هذا القلب الذي تفرحه هذه التجربة المدهشة، يفرح كطفلٍ كلما تعلم كلمةً جديدةً أو نجح في الحديث بشكلٍ جيد، قلبي الذي يريد أن يلون غيوم العالم الواسع، وركوب الطائرة مرَّاتٍ أخرى، يعيش مزيج الدهشة والانسحاب للداخل، محاولة النسيان والهرب للذاكرة، وكلما حاصره يأس أو حزن هرب إلى حيزه الخاص، هرب من العالم إلى الذاكرة بيد أنه ومهما كواه حزنه ما بلبث إلا أن يسألني كعادته وببساطة طفل: يخو لديَّ صديقٌ اسمه الثلج، هل تعرفه؟! وأنا باستسلامٍ استمر بإطاعته وانتظار الثلج بينما أحدق في السقف الأبيض جدًا!