…أتذكرينَ كَيف أتيتيني؟في ذلكَ اليومِ البهيجِ السعيد؟في ذلك اليومِ الذي طلقْنا به أرواحَ المحبةِ التي تعاهدتْ بيننا..! نظرتِ إليّ دقيقتين و أنا جالسٌ والشجرُ أمامي كرفاقي الخائفينَ عليّ منكِ، بقيتِ تنظرينَ لي حتى أجهشتْ عيناكِ بالدموعِ،و حتى هبَ النسيم,ُ”أُقسِمُ” ,كي أقف ,ولم أقمْ،و لم أنظرْ و لم أُشفقْ..فاقتربتِ و جلستِ بقربي كأنكِ لا زلتِ مِلكي و كأنني لا زلتُ لكِ،و بكيتِ للمرة الاولى والاخيرةِ على كتفي،أتذكرين كيفَ مسحتُ بأطرافِ أناملي خدَّكِ خوفاً أن تبقى دموعُكِ على قميصي بهيئة ذكرى.. أتذكرين كيفَ قبلتيني؟ فقمتُ ورحلتُ وأنا مبتسمٌ بألمٍ،و بقيتِ بحزنٍ تسقينَ الأزهارَ مكان جلوسي ندى وردياً..؟ لا تقولي :”ليسَ كُلُ ما في القلب يُقال”،و لا تقولي:” ليس كُلُ ما يحدث يُشرَح”,كُلُ هذهِ الأحاجي و الأعذارِ لا تعنيني الآنَ ابداً..دعيني فقط أشكوكِ لنفسِك..كما يشكو الماءُ للماءِ حباتِ المطر..دعيني فقط أُفرِغُ كلَّ الصورِ التي التصقتْ بوعاءِ الذاكرةِ عَّلكِ “تُسامحينَكِ”،و علَّني أساعدُكِ في ذلك.. دعيني أُعيد الأمسَ البعيدَ بالأحرفِ و النُقاطِ ،لاحياء َفي ثرثرةِ الحاضرِ،بعد أنِ انطوى الزمانُ الذي جعلتُهُ لكِ في أحدِ الأيامِ خاتماً مًن الماس.. أحببتُكِ جداً،وظننتُ “و إنّ بعضَ الظنِ إثم” أنكِ لي و أنني لن أرَ بعدَك و أنني سأكون ضريراً لربما عن النساء،ِ عنِ الجموعِ،عن الاستمرارِ الفردي..! أحببتُكِ جداً و أحببتُ كيفَ كُنا و بعدها لا أذكر سوى رحيلنا،و ذنبُكِ الجميلُ أنكِ أحببتِيني وعذرُكِ الأجملُ أنكِ عشقتِيني..كيفَ تردّ الأرضُ بذورَ القمحِ من اعماقِها،أو كيف يتمخضُ البحرُ الجبالَ الراسيةَ فيه،كيفَ تَنْشَقُّ النواةُ عن محيطِها،كيف تتخلى الشموسُ عن أجيجِها!؟ كيفَ تَخرجينَ مِن الأحلامِ التي لم تكن إلاَّ لكِ؟ أفلسْنا في الحُبِ ووقعتْ وعودُنا في الَدَيْن،و راح الحُبُ مِن دروبِنا القديمةِ،و اجتاحَ الفراغُ شوارِعنا المقدسةَ،و أمسَينا.. أمسيتُ كافِراً في العِشقِ لا أُمَجِدُ فيهِ أيَّ لونٍ.. أحببتُكِ جداً،وكُنا نوراً وظِلالَ،فإنّ حلَّ الليلُ توحدْنا،و إنِ انشقَ النهارُ افترقْنا مُلتَصِقين.. صاحبتِ وجعي،ولامبالاتي ومراهقتي و طيشي و شخصيَ الغريبَ،و رافقتُ بدايَتكِ في كُلّ شيءٍ،كلِّ شيءٍ،في صعودِك على أدراجِ الأنوثةِ،و في نجاحاتِك البهيةِ كنتُ أولَ من يُصَفِق وأولَ من يُعجَب وأولَ من يعلم وأولَ منْ يساعد،كنتُ الأولَ.. و كُنتِ الأولى.. لمن كانت خِصَلُ شعرِك الناعمةُ تَطول،و لمن كانت عيناكِ تبرقُ و تَرعدُ و تحنّ و تسير؟ سأستريحُ قليلاً،أتعبنَي هذا الكلامُ.. هذه هي ولادةُ الموتِ،و هذا هو التخلي عنِ القرينةِ،و هذا هو رميُ البوحِ… أتدرين؟ هذهِ الألوانُ فيكِ جميلةٌ جداً،ولكن كمْ كان سيكونُ أروعَ رسمُكِ لو أنَّ التي تضيئُه شمسُ النهارِ وليس مُجرد شمعتين ضعيفتين وهزيلتين كحالِ أرواحِنا بعد مرورِ تلكَ السنوات.. هذا الضجيجُ في قلبي يُريدُ النزوحَ،وليسَ هيناً على حنايا قلبي ألمُ الأختراقِ،كما ليس هيناً عليها ألمُ البقاء.. و هذا النُعاسُ الذي يتخبَطُ في جمجمتي أصبحَ شديدَ العدوى،حتى أصابَ الذاكرةَ التي أصبحتْ تخلدُ إلى الموتِ.فلم أعدْ أتذكر أحاديثَ المروجِ عنا في الربيعِ،و لم أعدْ أتذكر خريرَ الأنهارِ على خصرِكِ صيفاً و لا حتى هطولَ الأمطارِ الغزيرَ فوق السقفِ الذي يقينا البردَ في ليلةٍ حميمةٍ دافئةٍ نقية.. طالما أننا ذكرْنا الليالي التي كُنا نقضيها.. أتذكرينَ أولَ ليلةٍ تبادلْنا فيها كلمة َ”أحبك”؟ تلك الكلمةُ التي ظنناها مقدسةً كانت فعلاً مقدسةً حين كنّا لا نستخدمها.. أول ليلةٍ بقينا ساهرين،نرسمُ ونخططُ لأنفسِنا،و كُلٌ مِنّا في مكان يُحاولُ أن يُشعر الآخرَ بوجودِه.شعورُ اولِ ليلةٍ كان كالقفزِ من كوكبِ زحل بإتجاهِ الأرض.لم ننمْ وبقينا نحكي للقمرِ حكاياتِنا،وكأننا فعلاً وُلدْنا من جديد لبعضِنا فقط،و كأنّنا كُنا لا نعرف أحداً سِوانا.. أما أولّ ليلةٍ بعد فراقِنا فكانتْ مختلفةً جداً.كنا كأننا ولدْنا من جديد أيضاً،و لكن هذه المرة ولدْنا كأنه لا يوجد أحدٌ بقربِنا يخففُ عن ألمِ ولادِتنا. أولُ ليلةٍ بعد فراقِنا كانتْ عبارةً عن وصولِنا من كوكب زحل إلى كوكب الارض،و لكنّ الهبوطَ كانَ قاسٍ و غيرَ متوقعٍ ورهيباً.حتى أنّ وجهينا انطبعا على هذا السطحِ،كنا في صراعٍ بين ان نقومَ ونصلحَ كلَ شيءٍ في اتصالٍ صغيرٍ و بين أن نضعَ الوسادةَ على رأسِنا و ننامَ فجأة،دون التفكيرِ.فأصعبُ ما هو في اولّ ليلةٍ هو التفكيرُ .تبدأُ بطرحِ الأسئلةِ على نفسك،و تطالبُ بأجوبةٍ،ولكن هنالك سؤالاً واحداً كانَ يجبُ على احدٍ أن يحذرنَي من التفكيرِ والتعمقِ به،و هو “كيف كُنا منذ اشهرٍ؟و لما صرْنا هكذا؟ او لماذا تغيرْنا؟” هذه النوعيةُ من الأسئلةِ مضرةٌ على العقلِ كضررِ الموادِ الإشعاعية.. أريدُ أن أصِفَكِ “بالحمقاء”ولكنْ لا أستطيع تقييدَ بعضِ أفعالِ النساءِ بالحماقة.هي فعلاً حمقاءُ تلك التي تظنُ شيئاً و تتصرفُ على أساسِ ما تَظن,وفعلاً غبيةٌ تلك التي تؤمنُ بالغدِ، والأغبى هو ذلكَ الرجلُ الذي يتيحُ للمرأةِ حقَ الظنِ و حقَ التحكمِ بالحاضرِ،لأن المرأةَ تستطيعُ أن تقومَ بأمورٍ وفي ذهنِها أنّ هذهِ الأمورَ ستكونُ جيدةً لها بعد عشرين سنة من اليوم،و تظنُ أنها على حقٍ حتى تنقضي تلك السنواتُ. حماقةٌ ام لا؟ كُلُّ الحقِ الذي تستطيعُ أن تعطيه للمرأة هو أن تُحبَّها و تعشقَها فعلاً حتى تشعرها بأنها ملكةً دون أن تكونَ مستقصداً لذلك،و حقُها عليكَ أن تكون عالمَك وحاضرَك و أناسَك و مرضَك و راحتَك و بأسَك و ترجيك و أمنياتِك.حقُها عليكَ أن تكونَ لكَ معجمَ الحياةِ بكلّ ما في الحياة.. أما التفكيرُ في المستقبلِ فهو غيرُ مُجدٍ في الحُب.في الحُب يجبُ أن تعملَ على الحاضرِ في أملِ أن يكونَ المستقبلُ معادلاً للنتيجةِ التي تتوقعُها من هذا الفعلِ و العملِ،كأن تزرعَ شجرةً و تتمنى أن تنبتَ في الهيئةِ والإتجاهِ الذي ترجوهُ أنت،دون حبالٍ أو قوةٍ… هيا..فلنذهبْ إلى جحيمِ الكلماتِ ،نتضرعْ بملذاتِنا التافهةِ هُناكَ ونتدفأْ بجمرِ البُعدِ و لنَبنِ في صرحِ الخيالِ عشقَنا ونرجمْهُ بالمسبّات… فهذا الصمتُ مزعجٌ جداً كالتفكيرِ بكِ،و هذا الحائطُ جميلٌ جداً،خالٍ و أبيضُ كقلبي الذي آتاكِ بهِ وزيرُ عشقِك قبل أن يرُفَ لكِ نَبَضُ.. كُنا نَقولُ أننا لا نستطيع التخيلَ أننا في الحياةِ دونَ بعضِنا البعض..أبشِري..نحنُ في الحياةِ،و دونَ بعضِنا البعض.. كُنا نقولُ كما الجميع، أن الموتَ هو القوةُ الوحيدةُ التي تملِكُ سلطةَ إبعادِنا..أبشري ثانيةً،لا زِلنا أحياءَ رغم موتِنا،و لكنّا لم نزلْ سوياً رغم وجودِنا.. آخرُ فنجانٍ هذا..بارداً أمسى كجوفِ الذكرياتِ في العقلِ،وآخرُ سيجارةٍ أمستْ ألذَّ مما نعانيه.. اليوم ،لا أعرِف “أينَك”ِ و لا تعرفين “أينَني”. بعيدانِ وثابتانِ في هذا البعدِ كالقطبينِ.على الأقلّ كُلٌ مِنا يشعرُ بالصقيعِ،وهذا هو وجهُ الشبهِ الوحيدِ الذي تبقى بيننا..”الصقيع” هيا ،فلنحاولْ أن نتصرفَ كراشدَين يمران على عقباتِ ذكرياتِهم محاولين إقناعَ النفس بتفاهةِ الذكرى. هيا نقمْ و نمشِ كُلٌ بطريقه،و نحاولْ أن نبتعد ولنرْجُ ألا تكونَ الكرةُ الارضيةُ مدورةً بشكلٍ جيدٍ و مصقولٍ كي لا نلتقيَ و نحنُ نبتعد.. هيا.. فلنعدْ كما كُنا..دون أن نكونَ معاً.. فلنعدْ مُجردَ عابِرَين تبادلا النظرَ ،و لنتخيلْ كيف كانت ستغدو الحياةُ.. فإنّ الخيالَ بذاتِهِ..كَبِدُ الواقِع..