في فيلم "الكيت كات" للمخرج المصري داوود عبد السيد، يقف الشيخ حسني أمام عم مجاهد كطفل أمام والده بعد ارتباكه لخطأ كبير. يتساءل الشيخ حسني عن سبب غضب عم مجاهد عليه، عم مجاهد لا يجيبه، يكتفي بالنظر إليه بحزن. يلحّ الشيخ حسني، ليؤنبه عندها عم مجاهد بعنف على بيعه للبيت الذي بناه هو ووالده حجراً فوق حجر مقابل الحشيش. الحشيش الخطيئة الوحيدة للشيخ حسني. يرحل الرجل عندها إلى منزله.
يتحدث الشيخ حسني بفخر في إحدى جلسات المزاج: "أنا أعمى يا غبي؟ ده أنا أشوف أحسن منك في النور وفي الضلمة كمان".
لا يعترف الشيخ بكونه كفيفاً. فقد البصر لكنّه استطاع أن يخلق بصيرة تهدئ من روع الظلام. هو ليس أعمى، كلّ ما في الأمر أنّ النور "راح"، حسب قوله. هو يستطيع قيادة الدراجة البخارية ويستطيع الإبحار في نيل الكيت كات بقارب صغير. قارب ربّما صنعه في خياله كثيراً إلى أن وجد نفسه يبحر به بالفعل عن طريق الصدفة.
يساعد الحشيش، بالخفة التي يخلقها، الشيخ حسني على التحليق بعيداً عمّا يعانيه، وتحديداً الفقر والقهر. الفقر الذي أجبره على بيع منزله لقاء القليل من المال والكثير من الحشيش، ليضمن جلسات المزاج التي يشعر فيها بنفسه أو كما يقول لعم مجاهد: "أنا بكلم الناس حوالين الجوزه، بفضفض بضحك وأغني في قعدة حلوة لغاية ما أموت".
هو ينتظر الموت. ربّما يقود دراجة بخارية أو قارباً أو يشاهد فيلم سينمائياً حقيقياً لا الذي تخيله وجلس يحكيه لمكفوفٍ آخر خدعه، مؤكداً له أنّه يبصر مثل أي شخص.
يبدو حسني في "توهة" وملكوت آخر لا يستفيق منه أبداً، صانعاً صورة بصرية خاصة به يخدع بها الشيخ عبيد، ويحكي له عن حلاوة النساء في الشارع أو في فيلم سينمائي، لا يراه سوى في مخيلته. ورغم عجزه الواضح يمتلك البصيرة والشغف لإثبات تلك الرؤى الخيالية ممّا يجعله قادراً على التحليق بخياله والنميمة بصوت عالي في الحارة كلها دون الخوف من أحد.
يوسف ومحاولات عديدة للتحليق
الطرف الآخر في الوتر، يبدو مهزوزاً. يحاول التحليق هو أيضاً، لكنّ الحارة تتحول أمامه لسجن يتسع قليلاً لتحركاته، فيحاول الخروج عبر تذكرة الطيران. الشاب الجامعي الذي لفت نظر جارته الفتاة اللعوب، هو نفسه لا يؤمن بما يستطيع أن يقدمه في هذا العالم لذلك يبحث دائماً عن عالم آخر.
عالم أخر يستطيع أن يتعامل فيه مع العود والمقامات الموسيقية بعلاقة مُحب لا هارب من واقع مؤلم وأب من وجهة نظره غارق في جلسات المزاج، لا يعترف بأنّه مجرد كفيف.
يوسف الشاب العاطل عن العمل معزول تماماً عما يحدث في محيطه المكاني، الحارة. يتطلع للسفر فيما تعطّل تصرّفات والده مشروعه بأرض الأحلام والموسيقى غير المشروطة. يفشل في إقامة علاقة حميمة مع الجارة وهو ليس بالعاجز، لكنّ العزلة تجعل عقله في أمور أخرى تتعلق بالطيران بعيداً عن أي شيء يخص الحي السكني الضيق.
يتواجه الأب وابنه في لحظة ما. صراع الأجيال ولحظة المحاسبة التي تجرأ يوسف بها على والده انتهت بصفعة "عمياني" على وجه الفتى لينطلق وحيداً.
ينتهي اللحن الجنائزي في لحظة يتجلى فيها يوسف ليشبه الشيخ حسني، فيما يشبه إعادة وصل الود. يشارك يوسف والده في إحدى مغامراته، يتجلى الابن مع الأب في اعتراف واضح بألّا أفضلية لأحدٍ على الآخر. هي الحياة تخنق الكثيرين في هذا الحيز، لذا علينا أن نتقبّل الآخر، في اعتراف واضح من يوسف بأن بصيرة أبيه تستطيع التحليق أسرع من طيارته البعيدة، وربّما تقدر أيضاً أن تنتزع الضحكات في واقعٍ رمادي خانق.
في النهاية يعيد الشيخ حسني اكتشاف يوسف لا بصفعة "عمياني"، ولكن بتحسّس وجهه. يبدو أنّ يوسف لم يجلس أمام والده بهذا القرب منذ زمن بعيد، ليعترف الأب: "والله كبرت يا يوسف ووجك إتنحت".
آخر ما قاله الأب والابن قبل انتهاء مغامرة الدراجة البخارية الأخيرة: "النيل.. هنغرق".
نحن في كل الأحوال مهدّدون بالغرق فلماذا لا نغامر ونواجه ظلام أعيننا في بحث عن بصيرة قد تكشف لنا عن ضحكات جديدة ولو على أنفسنا وعجزها؟