من المعروف أنّ أصحاب باصات وفانات النقل العامّ في لبنان لهم عالمهم الخاصّ الفريد من نوعه.
مهمّتهم الأساسيّة التسابق: التسابق بالسرعة، والتسابق بالشعارات الموضوعة على ظهر الفان، أو واجهته أو جانبيه، أو التسابق بتزيين الشكل، من خلال فراشات ورسوم عديدة، غالباً ما تكون على مؤخّرة الباص. ولا يمكن الإفلات من ملاحظة هذه العبارات عند تنقله في المناطق اللبنانيّة.
تلتقي بهم أينما حللت. لكن هناك محطّات معيّنة ومعروفة تعجّ بالباصات والفانات، وبالتالي لا يمكن عدم ملاحظة شعار من هنا وهناك. أبرز هذه المحطّات الدورة والكولا، أما الباصات المتجهة شمالاً، فمعظمها يصبّ في «تل طرابلس» ويزور عكار. المشهد هناك يؤدي إلى منع العين عن التقاط أيّ صورة غير العبارات والرسوم التي تتزيّن بها الباصات.
ستجد على هذه الباصات والفانات شتّى العبارات الدينيّة أولاً مثل «سبحان الله» و «ما شاء الله»، و «توكّلت على الله»... أمّا الباصات التي تغيّر طريقها وتذهب نحو الكورة وبشرّي، فمار شربل هو الحامي، والمناجاة لأمّ النور مستمرة. بالإضافة إلى عبارة «Jesus save us»، التي غالباً ما تترافق مع رسمة للسيد المسيح، ورسمة لمار شربل بجانبها، أو على الطرف الآخر. التعابير الدينية لا تبرز فقط من خلال الشعارات، بل من خلال مسابح الصلاة التي تُعلّق عند المرآة الأمامية للباص أو الفان. هذه التعابير ليست نقطة في بحر العبارات الغريبة والعجيبة الأخرى: «دلوعة جوجو»، «صابر وراضي»، «بيسووووو»، «بندم عالإنسان يلّي عشقتو وخان»، «شيل عيونك». عبارات ليست بعيدة من اللبنانيين. لا أحد يعرف معناها، أو سبب وجودها أصلاً، لكنّها تلفت الأنظار. الجميع يتساءل عن مصدر الوحي لهذه العبارات، وعندما نسأل السائق، إمّا يضحك، أو يخبرنا بأنّها «قصّة طويلة». طبعاً هذه «القصّة الطويلة» لا تنطبق على الشعارات الدينية.
يقرّر السائق أنّ الباص بحاجة إلى تجميل، هنا يأتي دور الفراشات الملونة، ورسوم ولد صغير وقلوب ملونة، صغيرة وكبيرة، من دون أن ننسى الأضواء الملونة. ليس من الممكن أن يمرّ يوم واحد من غير أن نلتقي بأحد الفانات، وفي وضح النهار، ونرى شتّى ألوان النيون ترقص على الزجاج الأمامي للفان.
كما أن معظم الباصات «مكيّفة للرحلات». ومن منا لم يصدّق هذه العبارات في شهري تموز وآب؟ نركب الباص أملاً وجود مكيف ليتضح في الآخر أنّ المكيّف الحقيقي هو الشبّاك.
لا يمكن تفويت أسبوع واحد في لبنان من دون استخدام الباص ولو لمرّة. الباصات العامّة، أي التابعة للدولة، تشبه الرجل العجوز الذي لا يستطيع أن يمشي بسرعة وبحاجة للتوقف كثيراً. هذه هي باصات الدولة. أما الباصات التي تتجه شمالاً فتتوقف عند نهر الموت، وتسبّب زحمة خانقة، وأحياناً تؤدي إلى حوادث سير فقط لكي تتنافس وسابقتها على عدد الركّاب. بعد ذلك تقلّ المواجهة بعض الشيء لتعود وتتجدد عند كلّ محطّة أساسية. وأخيراً هناك الفانات، الأكثر إضاءة والأكثر سرعةً، لدرجة أنّ التسمية الرسميّة لها صارت «صواريخ».
في الباصات والفانات حكايات وقصص لا تعدّ ولا تحصى. هي مغامرة بحدّ ذاتها. نلاحظ في تلك الرحلات، الطويلة منها والقصيرة، تفاصيل حياتيّة غفلنا عنها بشكلٍ أو بآخر. فهل من الممكن أنّ هذه العبارات تؤثّر على التجربة؟
في هذا العالم كلّ شيء ممكن. يمكن التعبير عن الحبّ: «يا نجمتي المتألقة»، إما للفتاة، أو للباص بحدّ ذاته: «لؤلؤة الشمال» بما أنّه مصدر عيش عدد كبير من الناس. أو عن الحزن: «كلّن عنّك سألوني وما عرفت شو ردّ»، أو عن أهميّة الآلة التي يستخدمونها: سوبر ديلوكس، my Toyota is amazing... وطبعاً «رضا الله ورضا الوالدين». من دون أن ننسى «ملك الشمال»، «الأميرة مريم»، وتسميات أخرى تطلق على الباص أو الفان وكأنّه إنسان حقيقي يعيش بيننا، يحاول أن يعبّر عن مشاعر الحبّ، الحماسة والحزن من خلالها.
غريبة هذه الشعارات. لا يمكن ألّا نصادفها على الأقلّ مرة بالأسبوع. نقرأها، نضحك، وسرعان ما ننساها. وراء كلّ عبارة قصّة حقيقية تعبّر عن شخصيّة معيّنة وفعليّة موجودة في المجتمع.
وبالنسبة لهؤلاء الأشخاص هي تعبّر عن جزء كبير من حياتهم ربما لم يجدوا أي طريقة أخرى للتعبير عنها إلّا من خلال عملهم. ومع اختلاف الأيام، تختلف الأخبار وتختلف التجارب لتختلف معها العبارات، حيث تشكّل كلّ منها ثورة في وضع معيّن وحالة محددة.