كان عصر الانفتاح محلّقاً في سماء مصر. عالم جديد تدخله الدولة مع ثمانينيات القرن الماضي. الألوان تملأ شاشات التلفاز. السينما تبدو كنجمٍ ساطع فوق حطام المشروع الناصري وسنوات الحرب الطويلة. انتهاء أعوام الهجرة إلى بلاد الغرب، وبداية سنوات طويلة من العمل في بلاد النفط ومدن الملح الخليجية، تغيّر فيها شكل المجتمع ومزاجه العام.
بقايا جيل يشهد تبدل فكرة البطل من عبد الناصر إلى فاندام وأميتاب باتشان. وميلاد جيل جديد يبهره الحلم الأميركي تحت قيادة بطله «رامبو» الذي لا يُهزم. لكنّ الظاهرة الأقوى وقتها كانت ظهور جهاز الفيديو وشرائطه التي بدأت تغزو نوادي ومحلات الفيديو، ومن بعدها البيوت. شغف اكتشاف الجزء الأخر من العالم عن طريق السينما أكثر ما كان يميّز تلك الفترة. جيل الثمانينيات الذي كانت الأفلام والسينما خبز المتعة اليومية بالنسبة له. أتاح لهم ذلك أن يشاهدوا عدداً لا حصر له من الأفلام، جعل الكثير منهم يطمح أن يكون مخرجاً وصانع أفلام.
وقتها كان يلمع في الأفق كوينتين تارانتينو كمخرج عالمي لم يتعلّم السينما أكاديمياً، إنّما تعلمها وأحبّها من عمله وهو صغير في أحد محال تأجير شرائط الفيديو، والذي شاهد فيها عدداً ضخماً ومتنوّعاً من الأفلام. أو كما يقول: «عندما يسألونني هل ذهبت إلى أكاديمية لتعلم صناعة الأفلام؟ أقول لهم: لا، بل ذهبت إلى الأفلام».
أحد هؤلاء كان صديقي مصطفى حسين الذي يكبرني بأعوام عدة ويتهم جيلي بالرفاهية، لأنّه وجد الأفلام على طبق من «التورنت» ومواقع الإنترنت. مصطفى، الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، وآلاف الأفلام وشرائط الفيديو، يعرف تلك الفترة جيداً، يسخر منها أحياناً، ويمجّدها كثيراً.
تعرّف مصطفى على جهاز الفيديو لأوّل مرة مع عودة جاره الذي يسكن في البناية المجاورة له، وقضى وقتاً طويلاً في العمل بالخليج. عادَ الجار محمّلاً بهدايا معتادة آنذاك: بطانية جديدة ومروحة كهربائية وجهاز فيديو. كعادة مناطق القاهرة الشعبية القديمة، الخبر ينتشر بسرعة البرق. علمَ كل أطفال وشباب الحي وقتها أن الجار العائد من الخليج معه جهاز فيديو وعدد من الأفلام الهندية والأميركية المحمّلة على الشرائط.
كانت هناك ورشة في الجهة المقابلة لبناية الرجل العائد من الخليج. يقول مصطفى إنّه كان يجلس داخل تلك البناية لساعاتٍ طويلة هو وعشرات من أبناء الحيّ، ليشاهدوا في البناية المقابلة أفلام جارهم من خلال شباك صغير، كان يفتحه الرجل على مصراعيه ليتشارك مع أطفال وشباب الحي ساعاتٍ طويلة من الأفلام الهندية والأميركية.
سريعاً صار جهاز الفيديو يملأ معظم البيوت في مصر، ومعه ظهرت محال ونوادي الفيديو، التي تستورد شرائط الأفلام الأجنبية من الخارج، وتوزع شرائط الأفلام العربية التي انتهى عرضها في دور السينما. كانت تلك الفترة الذهبية التي تعرّف فيها مصطفى على مئات الأفلام المختلفة من كل الأشكال، حيث افتتح أحدهم محلاً لشرائط الفيديو قريباً من بيته. كان يذهب لتأجير شريط فيديو من المحل وينتهي من مشاهدته، وفي اليوم التالي يذهب ليبدله بشريط آخر. وهكّذا استمر الأمر، حتى صار صاحب المحل يعرفه جيداً، ورأى في ذلك الفتى المولع بالأفلام شيئاً مختلفاً عن الباقين.
صار مصطفى صديقاً لصاحب المحل، يجلس عنده طوال اليوم، يساعده في العمل وتأجير الشرائط، في مقابل أن يشاهد أكبر عدد من الأفلام. لكن الفترة المفضلة لمصطفى في المحل، حين كان صاحبه يذهب إلى المصيف أثناء إجازة الصيف ويترك المحل تحت إدارته.
يحكي مصطفى بسعادة شديدة: «وقتها كنت أشعر أنيّ ملك معه مفاتيح كل خزائن الأرض. لا أعود أبداً إلى البيت، كنت مقيماً بشكل دائم في المحل، أتنقل من شريط إلى آخر ومن فيلم أميركي إلى فيلم هندي».
وقتها كانت الأفلام الأجنبية تحمل أسماءً عربية على شرائط الفيديو والبوسترات التي تعلّق على ناصية المحل. إمّا كانت تلك الأسماء ترجمة حرفية لاسم الفيلم الأصلي، أو لا يشترط أن يكون اسم الفيلم من الأساس، كانت مجرد أسماء تساعد على ترويج وبيع الفيلم في السوق المصري.
كان أبطال ونجوم شرائط الفيديو في تلك الفترة: فاندام، أرنولد شوارزنيجر، كارل ويزرث، سيلفستر ستالوني، بروس لي.. قائمة طويلة من نجوم "الأكشن" في ذلك الوقت. وكانت أسماء أفلام من عينة "بركان الغضب"، والذي كان يحمل اسم "Way of The Dragon"، وهو من إنتاج عام 1972 وبطولة بروس لي، وفيلم "رغبة متوحّشة"، أو "Wild Things"، إنتاج عام 1999.
يُحكى أنّه في بداية التسعينيات ظهر فيلم "Pulp Fiction"، وحقّق نجاحاً كبيراً في العالم. اشترى المنتج الشهير حالياً السبكي حقوق شرائط الفيديو الخاصة بالفيلم، وحين شاهد الفيلم شعر أن هناك شيئاً خاطئاً فيه، وأنّ السرد غير مرتّب بشكل منطقي، وأنّه لن يحقق أرباحاً بذلك الشكل، فكلّف أحد المولفين بإعادة مونتاج الفيلم وترتيب أحداثه، وكتب اسم الفيلم باللغة العربية على الملصقات وشرائط الفيديو: "خيال رخيص".
أما الأفلام المصرية، فكانت تتحوّل في ذلك الوقت من صناعة السينما المتعارف عليها إلى صناعة أفلام الفيديو، أو ما أطلق عليها وقتها "سينما المقاولات"، حيث كانت الأفلام تنتج وتصوّر في أسبوع، وبعدها توزع من خلال شرائط الفيديو. بطلة تلك المرحلة بامتياز كانت نادية الجندي. أما المخرج الأشهر لذلك النوع من السينما فهو المخرج ناصر حسين.
ظلّ مصطفى ابناً لتلك المرحلة التي عرفت هذا النوع من الأفلام من خلال شرائط الفيديو. ويشاهد النوع الآخر من الأفلام الأوروبية والأميركية من خلال نوادي السينما والفيديو وقصور الثقافة. أحب مصطفى السينما وحاول أن يكتب سيناريوهات عدة، لكنّها لم ترَ النور.
تراجعت شرائط الفيديو أمام البدايات القوية للقنوات الفضائية. ومع بداية الألفية الثانية صارت محال الفيديو تقفل تدريجيًا، حتى انتهى عصرها تماماً مع ظهور الإنترنت وانتشار القنوات الفضائية بقوة. لم يتبقَ شيء من محال ونوادي الفيديو، سوى بقايا البوسترات المقطعة والمرسومة على حوائط المحال التي لم تعد تُؤجر وتبيع شرائط الفيديو. البوسترات فقط ما تبقى إلى وقتٍ قريب، حتى أعادوا طلاء الجدران مرات عدة. لكن أحد أبناء ذلك الجيل مازال يحلم أن يكون تارانتينو، ويعرف جيداً أن أرنولد شوارزنيجر مازال متأهباً للقتال تحت ذلك الطلاء.
(القاهرة)