"خارج ذاتى
بعيدان أنا وذاكرتى
نقتفى أثر الحيوات الضائعه"
– جوزيبي أونجاريتي
خارج ذاتي
بعد أن أنهيت دراستي الجامعية، عملت في صيدلية لقرابة سنة كاملة. لرتابة تلك الأيام، انتبهت للزمن. لكننى لم أتخيل ما قد يحمله لي؛ لم تحدث تغييرات كثيرة في حياتي الشخصية أيامها وكُنت مُحملا بكل أحلام تلك الفترة من حياتنا، هنا في مصر، وعليه لم يكتسب الزمن هيبة تليق به في نفسي. أنهيت عملى في الصيدلية في منتصف 2012، العام الذي مثل لي عام كل البدايات، ومتأكد الآن، من أن كل البدايات تلك - على الرغم من كل الأمال والأحلام التي تأتي معها - ليست كلها بالضرورة بدايات مثالية. كل البدايات تلك تمثلت لي في أصدقاء جدد، وفتاة أحببتها، وسفر منتظر. زخم لم أكن أعرفه من قبل.
أتذكر تلك اللحظات جيدًا. أنا ووالدي وخالي الأكبر في المطار، صامتين. حاول خالي أن يكسر ثقل الصمت بكلمات لا تعني شيئا هامًا. بعد فترة من الصمت والقلق، ذكرني خالي بأن عليا التحرك الآن، نظر له والدي نظرة عتاب حقيقية، وفي اللحظة التي هممت فيها للتحرك قال: "ما تستنى شوية".
لم تسر الأمور كما يجب هناك، تعرفت على أصدقاء جدد، في الأغلب لن أقابلهم مرة أخرى، وهو لأمر مؤسف، عملى لم يكن محببًا لي، وكان متعبًا في الأشهر الأولى، فقدت تواصلي الجيد مع الأصدقاء هنا، وأصبحت وحيدًا أيضًا، لم أكن صالحًا لقصص الحب، كنت أنانيًا وغاضبًا ولا أُحتمل.
بعيدان أنا وذاكرتى
كان يومي مرهقًا؛ أستيقظ في الخامسة فجرًا، أذهب إلى مدرسة القيادة، لتعلم أصولها بعد أن فشلت أربعة مرات من قبل للحصول على رخصة القيادة. أنهى المدرسة في السابعة، أعود إلى غرفتي، أرتدي ملابسي الرسمية للعمل. على مدار 534 يوم، كان يومي كالتالي: مقابلة في الصباح مع مديري في العمل، كان لئيمًا ولم أحبه أبدًا. أنتهى من المقابلة اليومية تلك، ثم أتوجه إلى الشارع، أدور على كافة العيادات والأطباء مرورا بالصيدليات التي تقع من حولها، للترويج حول منتجات تجميلية لا فائدة منها. أعود بعد 12 ساعة كاملة في الشارع، سيرًا في بلدة لا تعرف المسافات القصيرة أبدًا. أعود منهكًا، أتحدث إليهما عبر سكايب، أصطنع إبتسامات كاذبة. ينتهي يومي في اللحظة التى ينتهي فيها تواصلنا اليومي هذا، لا أفعل شيئًا آخر سوى التفكير في هموم اليوم التالي.
لم تزرني الكوابيس قبل ليلة بعينها من ليالي ابريل 2013، ولا بعدها. رأيتهما، بدا مريضًا وبدت حزينة عليه، كان الأمر كله مشوشًا بالنسبة لي؛ بكيت، لكنني وجدت نفسي في غرفتي وحيدًا، أبعد آلاف الكيلومترات عنهما؛ فبكيت مرة أخرى. لم أكن أعلم، أن هذا الكابوس هو الحقيقة بعد سنة كاملة.
في صباح هذا الكابوس، بكيت طويلًا، ساعتين متواصلتين قبل ميعاد المدرسة. لم اعرف إنهيارا حادًا مثله من قبل. وبكيت في طريقي لمدرسة القيادة، وفي عودتي للغرفة، وفي طريقي للعمل. مشادة معتادة مع هذا المدير اللعين، بكيت مرة خامسة، توقفنا عن الجدال، وعدت إلى غرفتي ولم أعمل يومها. كان يعتقد أنني انهرت بسبب العمل، بدوت ضعيفًا أمامه، ولم أهتم حقيقةً بنظرته لي، كنت منهارًا بحق، وبدت كل الإنطباعات عني مقبولة ولا تهمني.
تلك الليلة وهذا النهار كانتا كافيتين لأن تؤكدان لي أنني أهاب المرض والموت. وأن هناك مسئولية ما تقع على عاتقي تجاة آخرين ولم أكن أعيرها أية إهتمام، جنبا إلى جنب الأحلام، وجدت نفسي أمام أزمة حقيقية. مساء، تأكدت أن أحلامى كلها لا تعني شيئا أمام هذا الخوف. قبل تلك الأيام، لم أكن أعرف هذا الخوف أبدًا.
نقتفى أثر الحيوات الضائعه
بعد عودتي، وجدت جسدا ممدد على السرير، لم يتعرف عليا بسرعة، لم يستوعب أنني هنا وأمامه إلا بعد تأكيدات والدتي أنني عدت، وأنني أمامه، على الرغم من أنه كان يعلم بعودتي منذ أيام.
عرفت بعدها رتابة أخرى، أيامًا ثقيلة. وأكثر وحدة. بصيص من الأمل تبدد في لحظة، كنت غاضبًا ولم أتمالك نفسي في تلك الأيام، كنت دنيئًا بحق، ولم أحمل لنفسي بعدها إلا الكره واللوم. وأحسست بالذنب لأمرين: قراري السفر والعودة على إختلافهما، ولدنائتي يوم سافرت ويوم غضبت. كنت أقف عاجزًا أمام ذاكرتي التي لا تخونني أبدًا، وأمام كل التواريخ اللازم عليا نسيانها، يوم المرة الأولى والثانية ويوم السفر وبداية العمل ويوم حصلت على رخصة القيادة ويوم قدت سيارة للمرة الأولى ويوم الكابوس ويوم الحادث ويوم رأيت فتاة جميلة إسمها نادية ويوم قررت ألا أستمر ويوم أنهيت عملى بالفعل ويوم عدت إلى هنا ثم يوم المرة الثالثة، يونيو والكذب.
في تلك الأيام بالذات، كنت أقف أمام هذا الزمن الذي هزمني بكل سلاسة. غربة لم تتخطى العامين، لم تبدوا لي زمنا طويلًا، ولكن عامان كانا كافيان له ليبدل لي كل ظروف الحياة. لم يمهلنى الزمن وقتا كافيا للتحايل عليه، فجأة وإلى الأبد، تغير كل شئ. أحسست بعدها بإنعدام المسئولية تجاة نفسي، وتخلصت من كل الأحلام والمسارات المُحتملة مرة واحدة؛ كان لزامًا عليّا، أن أكون حاسمًا، وواضحًا أمام نفسي ولنفسي.