«الموت!
فن، ككلّ شيء آخر
وإنّي أتقنه تماماً»
- سيلفيا بلاث
أحبّ تاريخ ميلادي الشتوي، ما من دراما أثيرها حوله. أمّا تاريخ وفاتي فلا بد أن يكون خريفياً.. واختيارياً. لا يمكن أن أموت في الربيع مثلاً. منذ طفولتي أكره الربيع وأخافه. أستشعر فيه رائحةً كئيبةً للهواء ومللاً غير مبرر وأفقاً رومانسياً مستهلكاً. أما في الخريف فكل شيء يبدو أكثر نضجاً واكتمالاً، حتى الموت. ولأعزّز نظريّتي أحصي أشياء أحببتها رحلت في الخريف: نظرة لؤي كيالي الغائبة في بورتريه رسمها لنفسه، حواس رياض الصالح الحسين المرهفة، وحب بدأ دورة حياته في أيلول.
في أحد أحلامي، كنتُ أمام بسطة كتب في «البرامكة» في دمشق، أنفض عن طلّاب الجامعة خياراتهم المزرية وأوزّع مجاناً دواوين رياض الصالح الحسين وأصرخ بذعر: على دمشق كلّها أن تقرأ رياض هذا الخريف.
لم ليس بوسع «دمشق نزار» أن تكون «دمشق رياض» مرة واحدة فقط؟ أن تكتسي اللون الأخضر بما يقارب لون جوفه؟
باستطاعة المدن أن تبتلع الخريف، باستطاعة الجبال أن تحتضنه. أصعد جبلاً كل عام كي أطلّ على الخريف. على رياض. أمتشق «خراب الدورة الدموية» عاماً بعد عام وأعيد: «مدينة: يركض في دهاليزها فرس شوكي/ يحكّ بقوائمه ظهرها الطافح ببثور الجرب». كيف استطاعت هذه المدينة أن تستخرج من رياض قسوة كهذي فيكتبها بكلمات لا تتناسب مع مخيّلته، مخيّلة رياض الذي يفجر في دمي سبعة عشر نهراً من الدهشة إن هو حكى عن شجرة أو شمس أو عن «س»!
في أحد أحلامي، كنت في حلب ثانية. وكان للؤي تمثال كبير في كل ساحة. تمثال من معدن خاص لا ينصهر إن لمسته النار. لا أعرف إن كانت هذه الفكرة ستُعجب لؤي الذي أضرم النار مرتين بلوحاته وبنفسه (في فترة ظننت خلالها أنّني أريد معرفة إن كان لؤي قد انتحر أو أنّه نُسيَ للاشتعال في مرسمه، قرأت فجأة مقالاً غير منطقي عن حالة الاحتراق الذاتي، وقررت أن هذا ما حدث للؤي، تماماً هكذا، اشتعل فجأة من جوف كبده وحتى أطرافه). في حلمي، باتت حلب لابنها البار، ولم يكن مضطراً بعد إلى الهرب.
يوم رحل لؤي، لم تبك حلب كما يجب، ولم يفض قويق الجاف دوماً. لمَ لم أدرك منذ ذاك الحين أنّه عليَّ التوقف عن تقديس تلك المدينة، وأنَّ روح لؤي السوداء كلون جوفه الجميل ستأتي لمعاقبتنا؟
«أنا رياض الصالح الحسين
عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة
ومئات المجازر والانقلابات
وللمرة الألف يداي مبادتان».
أنا هلا، وما من موسيقى في اسمي أو اسم والدي أو اسم العائلة. ولو كان لأعوامي الاثنين والعشرين فاكهة فهي إجاص ذو مذاق رملي. توقفت في الشهر الماضي عن نفث الدخان عبر رئتي، لأنّ الدخان الأسود جعلني أفكر أنّني أنا مَن يمنحه هذا السواد، لكنّني أدرك جيداً أن جوفي أحمر.. أحمر مخملي يداخله في بضعة أماكن أرجوان الخوخ والخزام. أعلن في كل مناسبة أنّني لا أؤمن بالنهايات ولكنني سراً، ودون مبرّر أحفظ قصصاً كثيرة عن الموت الذي أصنّفه رومانسياً. في العام الماضي صفعتني صديقتي وقالت: «ما من رومانسية في الموت، انضجي». صديقتي تحدّثت بهدوء، ولكنّ الفكرة هي التي صفعتني. لا يسعني التفكير أن أشخاصاً كلؤي ورياض قد ماتا وحيدين منسييّن متعبين. أرفض السيناريو تماماً وأعود لأتخيّل الروحين تسترخيان على كتف الخريف وتسلّمان بهدوء وإذعان. أرتاح للصورة وأحلم بنهاية مماثلة.
في أحد أحلام يقظتي، كشك لبيع الدخان والجرائد في دمشق في العام 1974 وفي ساعة واحدة يتوقف عنده لؤي أولاً ليبتاع الدخان، ومن ثم رياض لابتياع جريدة، ومن الممكن أن أحدهما قد صادف الآخر هناك في اللحظة ذاتها من دون أن يدرك. صاحب الكشك لم يعرفهما، ربّما لـــم يرفع عيـــنيه إليهما حتى، لم ير كيف تتــعثّر النظرات بالموت. صاحب الكشك الـــذي أحسد لا يعني له الخريف حتى اليوم سوى عودة أطفاله إلى المدرسة.