لم يكن من السهل الدخول إلى هذا العالم الفسيح الضيّق في آن معاً. عربة واحدة تحمل أمتعة شابّ عشريني من الأقاليم إلى العاصمة. ومع وداع الأهل والأصدقاء يتحوّل الطريق بأكمله إلى شريط ممتد كظهر ثعبان أملس. ومع الدخول إلى الجامعة تتسع الدائرة، ويتسع الصدر لهواء أكثر كثافة.
هناك تعرّفت إلى شاب انطوائي ينعته الجميع بالغرور والتكبّر لكنّه صار أحد أصدقائي المقربين. وكما يهرب النبع إلى مصبّه، بات صديقي الأقرب. شغفه بالموسيقى جعلني فضولياً تجاه كل ما يسمعه، وفي إحدى المرات بينما يخربش في كرّاسته السميكة قال لي: "هل استمعت له من قبل؟". كان السؤال مربكاً. وعلى غير عادته بادر بقوله: «بوب ديلان فنان عظيم»! تناسيت الموقف أو ربما انشغلت بالتفكير بأمور دراسية أخرى.
مع عودتي إلى المنزل مساءً، بدأت في التفتيش عن ذلك الاسم. ومع ألبوماته التي حملتها من الإنترنت دفعة واحدة بدأت يومياتي تتشكل معها. علاقة ودّ متبادلة بين نصوص غنائية، وشاب تتبدّل حياته بطريقة درامية.
(1)
كعادة الكبار بدأ الشاب حياته الفنية بالعزف في أحد المقاهي، واقتبس اسمه الفنيّ من الشاعر ديلان توماس. ومع نهاية الخمسينيات بدأت تلك المسيرة الحافلة بين الألبومات الموسيقية (37 ألبوم) والحفلات الفنية واللوحات الزيتية. لقد تحوّلت أغانيه بشاعريّة خاصة دون تكلّف أو زخرفة إلى لوح زجاجيّ عاكس لحياة البسطاء والمناضلين في الشارع الأميركي. إنّها لوحات بسيطة مجردة عن حقوق مدنية سُلبت أو حرب سببت ملايين الخسائر.
في إحدى المرات، مارست لعبتي المفضلة، تسلّلت من بين شوارع وسط القاهرة. كنت حزيناً إلى درجة لا تُصدق وعلى جهاز «آيبود» صغير أعدت الأغنية ذاتها كلّما انتهت ولا أعرف السبب. "كحجر يتدحرج" (1962) كان صوت ديلان مشروخاً، يجتاز السيارات بخفة، ويخلع نعليه قبل أن يدخل إلى حزني. ها قد أصبح الشارع رفيقي، وعلى غير سابق معرفة كان عليّ أن أتآلف معه. ومع تحولات الأغنية في نهاية المطاف بدأت أرقص من نشوة الحزن والتشتت. في هذه الليلة فقط ائتمنت صوت ديلان على سرّي. لا أحب الصخب، وأميل إلى الأصوات التي تهمس دون أن تفصح، تقترب دون أن تجرح، وتترك الرسالة دون أن تفضح، هكذا تعرّفت إلى ديلان.
عندما كنتُ أشعر بكآبة عابرة، كان ملاذي أغنية واحدة "ضارب الدف" (1965). كوشوشة في أذنيك يقطع عليك ديلان الطريق، ويصوّر برحابة نهايات إمبراطوريات الرمال التي تنسرب من بين أطراف الأصابع. لا شيء يذكرني به سوى الشوارع الليلية، وأضواء السيارات العابرة، والكباري التي هجرها العشاق. كأنّ تلك الأغنيات خُلقت للمساحات الشاغرة، والهوامش في حياتنا اليومية.
(2)
لطالما أمعنت التفكير في مسألة شعوبية الأغنية واقترابها من عادتنا وتقاليدنا اليومية. في كتاب "الأغنية الشعبية بين الدراسات الشرقية والغربية" يعرض مجدي محمد شمس الدين رأي الناقد جوزيف إديسون بقوله: «لا بد من اشتمال الأغنية الشعبية على عناصر فنية متميّزة تستهوي إليها المستمعين على كافة مستوياتهم الفكرية، فشيوع الأغنية بين الجماعة الشعبية، في رأيه، يعني اشتمالها حتماً، على قدر من العناصر الفنيّة الجذّابة، وإلا فما تقبّلتها الجماعة الشعبية وتداولتها في ما بينها». هكذا تلحفت أغنيات ديلان ببساطتها وعفويتها فضاءنا المجاور. عندما يُمكن ملاحظة أن أغنية "تترنح في الهواء" (1963) تعدّ تعبيراً مباشراً عن واقع مؤلم أصبح الصوت الأعلى فيه للحروب وأعداد القتلى.
في هذا الصخب أفكر أحياناً في الانزواء في مساحة ضيقة هرباً من ضغوط العالم المحيط كمن ينقر بشكل متسارع على أبواب السماوات. أعرف أن ديلان لا يعنيه هذا الرأي أو ذاك لقد باع أكثر من 10 ملايين نسخة من ألبوماته حول العالم. وتم تتويجه الأسبوع الماضي بجائزة «نوبل» للآداب. إن هذا التماسّ بين يومياتي في القاهرة لفترة زمنية بعينها، وتشابكها مع مفرداته التي غنّاها هما ما جعلاني أتحمس لتجربته الثريّة. ربما حان الوقت كي ننظر للشعر الغنائي باعتباره محركاً للشارع تماماً كأن تقبض على وردة بين كفيك لتحتفظ بعطرها. ربما يكمن جوهر اللعبة في البساطة والذكاء في آنٍ واحد.
(3)
لقد حاولت سابقاً أن أكتب عن ديلان موسيقياً سابقاً، لكن يبدو أن التراجع كان سيد الموقف. ربما لأسباب شخصية تتعلق بصعوبة الإفصاح عن الأشياء التي تخصّنا، ومنها تلك الأغنيات التي نرسمها كفراشةٍ بخطين. عزيزي ديلان شعرت أكثر من مرة بأنّ النظريات الفرويدية لا تجدي مع أمثالي، وشعرت بسعادة أنّنا اتفقنا في ذلك. لكن على الجانب الآخر سأفصح لك بسر يوماً ما في شدة حزني، أعرتني جناحيك عندما سمعتك تطنطن مع جوني كاش في أذني:
«اذكرني عند الذين يعيشون هناك».