«فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ»
حكت ليَّ الجدة ذات مرة عن إمرأة جميلة للغاية. كانت قريتها بأكملها مُغرمة بجمالها. القرية بأكملها كانت تريد الزواج منها. لم يكن للفتاة أي أصدقاء، كانت تخرج يوميًا من بيتها وتجلس بجانب نخلة مرتفعة للغاية، وحِينَ يأتي المساء كانت تعود إلى البيت. وفي إحدى الأيام قرر عدة رجال يتصارعون عليها أن من يقدر على تسلق تلك النخلة التي تجلس بجانها، تكون الفتاة من حقه ويبارك له الأخرون. كُل من حاول أن يصعد تلك النخلة في الماضي، كان يسقط في المنتصف ويموت، حتى ظن جميع من في القرية لوقتٍ طويل أنها نخلة بها سحر أسود، يمنع أحدا من تسلقها. في أحد الأيام كانت تجلس الفتاة بجانب النخلة، ذهبوا جميعًا ليتسلقوا تلك النخلة أمام عينيها. لكن شئ غريب كان يحدث دائمًا، كلما وصل أحدهم للمنتصف، توقف ونظر للفتاة بالأسفل، وينزل من النخلة. الجميع عاد إلى الأرض بقسمات وجه مختلفة وأيادي مقطعة وملطخة بالدماء.
ذات يوم سمعتها إحداهن وهي تقص شيئاً على النخلة، وتقول: «إنيّ رَأَيْتُ وجهيّ في المِرآةِ دَاميًا» تذهب الفتاة وتعود في اليوم الثاني لتجلس بجانب النخلة ويسمعوها مرة أخرى وهي تقول «إنيّ رَأَيْتُ وجهيّ في المِرآةِ دَاميًا» بعد وقت من تداول الأمر في القرية ظنوا أن تلك الفتاة ساحرة، وأن ما تقوله للنخلة ما هو إلا تعويذة تجعل في النخلة سحرًا أسود يمنع أحدا من الصعود إليها؛ حتي لا تتزوج، لأن الساحرات لا يتزوجن إلا الشيطان. خاف الجميع وظنوا أن الفتاة تملك سحرًا أسود، وقرروا أن يطردوها هي وأهلها من القرية. في الليلة الأخيرة قبل أن تغادر الفتاة القرية، سمعتها جدتي وهي تقول للنخلة ذاتها: «ما كنت إلا أَبُوح بِرُؤْيَاَيْ». في النهاية قالت ليّ جدتي: لا تبوح أبدًا برؤياك سوى للبحر والرمال، ارْمِ سرك في بئر، ولا تلوث الذئب بخطيئة البوح.
(١)
«إِذْ قَالَ يُوسُف لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْت أَحَد عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتهمْ لِي سَاجِدِينَ»
منذ حكت ليَّ الجدة تلك القصة وأنا أرى أن هناك رابط حقيقي مع قصة يوسف؛ أعتقد أنه البوح. لو لم يقص يوسف رؤياه على أبيه، لم يكن ليراه نبياً ويحبه أكثر من باقي إخوته. وما غار منه إخوته وتركوه في البئر وحيدًا. شئ ما خفي كان يعرفه أبيه عن البوح ولم يدركه يوسف؛ ثمن للبوح قرر أبيه أن يدفعه بدلاً من يوسف حين قال له «لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ».
الأمر ذاته حدث مع إبراهيم حِينَ قص رؤياه على ابنه إسماعيل «قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ» لكن في تلك المرة دفع الله عنهم ثمن البوح «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» يبدو أن هناك شئ خفي يُريد النص القرأني أن يقوله عن البوح. أو أن الله أراد أن يضع لنا قانون ينظم به البوح.
(٢)
في فيلم الفتى العجوز (old boy 2003) المخرج كان لديه الفكرة ذاتها عن البوح، ولذلك صنع فيلم يحكي فيه عن الثمن الباهظ الذي قد يدفعه أحدهم نظير البوح ولو لمرة واحدة. لكن ربما ثمن البوح بالأسرار أغلى بكثير من البوح بالأحلام والرُؤى. أعتقد أن هناك سر بين التقدم في العمر ومعرفة قيمة البوح، أو ربما التقدم في العمر يجعل من الناس أنصاف أنبياء.
(٣)
«وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ»
أخبرتني «إسراء» عن حلم قد جاءها منذ عدة أيام وأنها تريد أن تحوله إلى فيلم مشروع تخرجها. قُلت لها أن تلك الأمور أحيانًا ما تكون إشارات ليست للكتابة. لكني لم أخبرها عن الفكرة التي تدور في رأسي عن قانون وثمن البوح. فكرت لحظتها أن ربما الكتابة وصناعة الأفلام ما هي إلا تحايل على قانون البوح. أو ربما أدرك الشعراء ما لم يدركه يوسف.