لا أعرف شيئاً عن الرجل الذي كان جالساً أمام كاميرا ذلك التلفزيون الفرنسيّ. لا أعرف اسمه ولا إن كان ممثّلاً أو مخرجاً. لا أتذكّر ملامح وجهه. أتذكّر فقط تلك الكلمات الثلاث البيضاء التي ظهرت أسفل الشاشة: المسرح هو الخلود.
بالأمس كان
سايمون ويونا يقفان على خشبة مسرح سينما ستارز في النبطية، مؤدّيين قصة مريم ورضا المسلمين الذين تقودهما الحرب للجوء إلى بلد جديد. يونا/ مريم حكت عن ابنها محمود واصداماته الأولى مع المجتمع الجديد ثمّ أخبرت الجمهور وسايمون/رضا بصوت منكسر كيف استسلمت أخيراً لقرار المدرسة إطعام الصبيّ لحم الخنزير. سايمون/ رضا راح يصيح "خنزير،حرام ، خنزير، حرام". أنا لم اكن هناك لكنني أستطيع تخيّل صمت الجمهور في القاعة خلال العرض كما أستطيع أن أراه يصفّق طويلاً لأدائهما المدهش.
قبل أربعة أيّام كان الممثلان السلوفينيان يؤديان نفس الدورين على خشبة مسرح المدينة في بيروت. بعد انتهاء العرض دعاهما قاسم لإجراء حوارٍ مع الجمهور ثمّ دعاني لأترجم الحوار. جلست بجانبهما ورحت أنقل الحوار مع بعض الارتباك الذي تجسّد في كثافة تحريك اليدين. كانت هذه أوّل مرّة أتحدّث فيها أمام جمهور غير زملاء المدرسة الذين كان الأساتذة يصرّون على جعلي أقرأ لهم مواضيع الإنشاء التي أكتبها كي "يتعلّموا". أيقظت تلك اللحظات فيّ الممثّل المسرحيّ الذي أردت أن أكونه يوماً، وتذكّرت مجموعة البرجوازيين في فيلم بونويل الذين تبتعد الكاميرا عن مائدتهم لتكشف أنّ المائدة موضوعةٌ على خشبة مسرح ولتوحي أنّ هناك جمهوراً يراقب تصرّفاتهم، ويحاول تعلّمها ربّما، طول الوقت. في صباح نفس اليوم كنت قد تحوّلت في النبطية مترجماً بالصدّفة أيضاً في حوارٍ بين مسرحيين من العراق وليبيا وكوردستان وإسبانيا وسلوفينيا. تحدّثت يونا قليلاً عن عرض المساء وقالت إنّهم يقدّمونه منذ أربع سنوات وأنّه مأخوذٌ في الأصل عن نصّ مسرحيّ يتحدّث عن مهاجرين إيرانيين إلى ألمانيا في السبعينيات من القرن الماضي. على المسرح قالت يونا إنّ مريم ورضا يمكن أن يكونا سوريين مثلما يمكن أن يكونا إيرانيين مثلما يمكن أن يكونا سلوفينيين. بعد حوار الصّباح قلت لآنا إنّ المشترك بين الجميع هو أنّهم قادمون من بلاد تعرف الحرب أو عرفتها وجميعهم مصرّون على تحدّي هذه الحرب بالمسرح ثمّ اتفقنا جميعاً على مشاهدة فيلم قصير من عمل أحمد ولم يندم أيٌّ منّا على هذا القرار. بعد انتهاء العرض في بيروت ذهبت مع نور لحضور بروفا عمل موسيقيّ يحضّر له شباب تعرّفت عليهم قبل يومٍ واحد ودعوها للانضمام إليهم عازفة إيقاع. اكتشفت إن أكثرهم سوريّون. وسمعتهم يتدرّبون على أداء "يامو" غوّار الطّوشة بطريقة مختلفة عن المعتاد لنا. بعد البروفا قلت لها إنّني شاهدت في هذا اليوم سينما متقنة وأداءً مسرحيّاً سأتذكّره طويلاً وفي النهاية سمعت موسيقى جميلة وإنّ هذا سيجعل اليوم يظلّ عالقاً في ذاكرتي. لم أقل لها إنّني في تلك اللحظات كنت أحبّ جنونها أكثر من أيّ وقتٍ آخر.
قبل خمسة أيّام كنت في السيّارة مع قاسم والشباب هادي وابراهيم والعكّاوي الذين أعاد معهم تأهيل سينما في النبطية ثمّ افتتحوها بمهرجان لبنان المسرحي في اليوم السابق. كنّا ذاهبين من صور إلى النّبطيّة. راح قاسم يتبادل النكات مع الشباب. أنا كنت مستمتعاً بالطريق وكنت أفكّر بما سأراه من تفاعلٍ مع افتتاح سينما وإقامة مهرجان مسرحيّ في هذه المدينة التي لا أعرفها جيّداً لكنّ صورتها كانت مرتبطةً طول الوقت لديّ بحسن، زميلي في عملٍ سابق، الذي كان يتحدّث منتشياً عن التطبير وعن المواكب الدينية في عاشوراء. وصلنا إلى مكان إقامة المشاركين في المهرجان. هناك كان الجميع جالسين إلى المائدة. ألقيت تحيّة جماعيّة ثمّ ذهبت لاحتضان آنا ونور حميد وأحمد وبيم. بعد قليل رأيت آنا مرّة ثانية فاحتضنتها مرّة ثانية وتحدّثنا كأننا نتابع حديثاً توقّف قبل أكثر من سنة. حان وقت الذهاب إلى السينما. في السيّارة تحدّثت آنا عن الكرنفال الذي جاب الشوارع في اليوم السابق. قارنت بين فرح الأغلبيّة وتجهّم البعض. هذه امرأة شيوعيّة عاشت حكم فرانكو الفاشيّ وتعلّمت أن ترفض كلّ تقييد للحريّة. حديثها عن الرقابة الأخلاقيّة أعادني للتفكير بالجمهور الذي سأراه. تذكّرت افتتاح سينما الحمرا في صور قبل أكثر من سنتين بمهرجان مسرحيّ أيضاً وتذكّرت انزعاجي من كثرة التصفيق وتنقل البعض بين القاعة وخارجها بأريحية كبيرة. خفت أن يحدث أمرٍ مشابهٍ هنه المرّة أيضاً. وصلنا إلى السينما أخيراً. دخلنا وكان قاسم يتقدّمنا. هو نزل إلى الأسفل بينما وقفت مع آنا في المنتصف ودونما اتفاق رحنا نصفّق. أدّيت له تحيّةً مسرحيّة وصحت "برافو". بعد قليل وجدت نفسي أتحدّث مع بيم عن المشروع وعن أهميّة استمراره والوصول به إلى طرابلس في المرحلة المقبلة. قلتُ له إنّني يمكن أن أترك بيروت البلاستيكية إذا أعاد قاسم افتتاح سينما في طرابلس. بعد قليل انضمّ إلينا رواد الذي لم أكن اعرفه لكنّه راح يتحدّث عن عمله في المسرح في الجنوب. من فرط الحماس كنت أريد أن أهديه كتاب مسرحيّات لهارولد
بينتر لكنّني اكتشفت أنّه لم يكن معي في الحقيبة. حان وقت العرض. كان عرضاً لشبابٍ من الجنوب صار فيه لبنان باصاً معطّلاً. أنا كنت أشاهد العرض والجمهور في نفس الوقت. كان هناك أكثر من 100 شخص بينهم رجالً ملتحون ونساءٌ ترتدين الشادور. وكانوا جميعاً متفاعلين برقيّ كبير. شعرت بسذاجتي في إطلاق أحكام مسبقة. حين خرجنا سألتني آنا عن رأيي في المسرحية فقلت إنني لم أحبّ نبرة الوعظ فيها لكنّ الأهمّ أن الجمهور كان رائعاً.
قبل يومين استيقظت في قرية جميلة في أقصى الشمال. قرّرت رغم جمالها "العودة" لكنّني لم أكن أعرف هل "أعود" إلى بيروت أم صور أم النبطيّة. قررّت أن يحدّد الطريق نفسه. حين وصلت إلى موقف الباصات في طرابلس تذكّرت أنّ في المنطقة سينما. مشيت بحثاً عنها في الاتجاه الذي أتذكّره. لم أجدها. عدت لركوب باصٍ ذاهبٍ إلى بيروت. في طريق العودة رأيت يافطة ضخمة كُتب عليها "للبيع" تحتها رقم هاتف معلقة على بوابة زجاجيّة. اقتربت لأنظر إلى ما خلف الزجاج فاكتشفت أنّ ما توقّعته صحيح. هذه هي السينما. تذكّرت سينما النجوم في مخيّم اليرموك التي شاهدت فيها أوّل فيلمٍ داخل قاعة - في الحقيقة شاهدت يومها فيلمين حيث كانت صيغة "العرض المستمر" القائمة على عرض أفلام طول اليوم هي المتّبعة. دوّنت الرقم المكتوب تحت كلمة للبيع ثمّ اتصلت بقاسم. قلت له إنّني وجدت لك سينما في طرابلس وإنّني سآتي إلى النبطيّة. حدّد الطريق نفسه. في المساء ذهبت مع والدي وأخي الصغير لمشاهدة عرضٍ من الأرجنتين. كان العرض منودرامياً وكان متقناً في كلّ شيء. أخي الصغير كان يشاهد مسرحاً لأوّل مرّة. الأنيميشين المرافق لحركات ماوريسيو الذي انتقل من جنديّ في جيش حرق الكتب إلى مدافعٍ عن "كتاب الكتب" جعله يتابع العرض لحظة بلحظة ويتفاعل معه. بعد العرض وجدت نفسي مترجماً مرّة أخرى. هذه المرّة كنت جالساً بين آنا ونور حميد وماوريسيو. نور يسأل بالعربية وأنا أترجم بالإنجليزية لآنا وهي تترجم لماوريسيو بالإسبانية. اقترب منّي أخي واحتضنني بينما كانت الترجمة التي تشبه المسرح دائرة. كنت قد قلت لماوريسيو بعد انتهاء العرض إنّ أخي يشاهد مسرحاً لأوّل مرّة وإنّه من كان يملأ القاعة ضحكاً. لم أقل له إنّه أوّل شخصٍ ألتقيه من حاملي جنسيّة البلد الذي سأموت فيه. في طريق العودة إلى صور سألت أبي إن كانت هذه أوّل مرّة له في المسرح أيضاً فقال لي إنّه شاهد عشرات المسرحيّات في مسرح السفراء في دمشق وإنّه كان يذهب مع صديق عمره وابن خالته إلى سينما النجوم في اليرموك مدّعيان أنهما ذاهبان للدراسة. سألته إن كان العرض مستمرّاً في تلك الأيام أيضاً فأجاب بالنّفي. الحوار كان دائراً وفي خلفيّته صوت أم كلثوم - وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان. قلت لأبي إنّ الجنوب جميلٌ جدّاً خاصّة في الليل. لم أقل له إنّني أتمنى لو كانت الحياة مسرحاً أو فيلماً أو أغنية
26/8/2016