عندما دخلت مرحلة انقطاع شهيّتي للموسيقى، صرتُ أكثر حساسيّة تجاه الروائح. صرتُ أشمُّ اكثر. صرتُ أميّز بين الرائحة والأخرى. صرتُ أتحسّس رائحته مرّةً كلّ خمس روائح مختلفة. أجدها في لحظة غافلة فلا أعرف إن كنتُ أشمّه فعلاً أو أنّي أستحضره كما جرت عادتي.
***
كان يوم اثنين. وصلتُ إلى بيته عند العاشرة والربع. وردني من الداخل ضجيج غير معتاد. تردّدت في فتح الباب الأخضر الهائل طولاً وعرضاً. هذه المساحة الفاصلة بين الدرج والباب معتمة، معتمة جدّاً. خفتُ أن يخرج فجأة ويضبطني متلبّسةً بالإنتظار. متلبّسةً بانتظاره هو. أخاف منه، وحينها لن أعرف أن أشرح له ما يحصل. حينها قرّرت ان أفعلها، برمت مسكة الباب البيضاء المُدوّرة إلى اليمين ورفست الباب قليلاً بقدمي.
***
عندما فاجأني بسؤاله عن بيروت سكتت. بعد أسبوع أرسلت له رسالة بريديّة باكرة خالية من أي عنوان:
بيروت هي المنطقة الصغيرة الممتدّة من مسبح الجامعة الأميركية وصولاً إلى قهوة أنكل ديك في عين المريسة. تتكدّس المدينة بين هاتين النقطتين على شكل قلب أسود بثقب عريض في الوسط، على شكل وحش بأنياب بيضاء نظيفة وشعر مبعثر مرميّ في الجهتين.
بيروت هي السمكة الكبيرة المعلّقة في قفص حديديّ فوق البحرٌ البنيّ المتّسخ بصحون من الفول والفتّة غير المغسولة وبقطع من المكدوس المتعفّن. تلفّ المدينة رائحة عفن غريبة تسطو على الناس وعلى الأطفال وألعابهم. شمال مقهى أنكل ديك تتجمّع رائحة زنخة لم تشمّ مثيلاً لها. رائحة تقتل ببشاعتها. تخال نفسك داخل مجرور، بينما تُكمل مجموعة من الرجال حياتها فوق صفّ من الكراسي البلاستيكية الحمراء. يضحكون، يلعبون الطاولة ويصرخون في وجوه بعضهم البعض وكأنّ شيئاً لا يحدث من حولهم، كأنهم لا يرون مبانٍ متهاوية أرضاً وباطوناً كثيفاً في فجوات عيونهم.
هذا صفيح من العفن والبشاعة والباطون المنتهي الصلاحيّة. هذا ما تتمايل هذه المدينة من فوقه.
***
كان وجهه يُقابل وجهي من مسافة بعيدة. لم يتمكّن مني مظهره. رجلٌ في الخمسينات من العمر، يرتدي قميصاً أبيض، أمّا البنطلون فلونه أقرب إلى لون أغطية سرير أمي التي اشترتها من السعودية. في يده حقيبة بنيّة، بينما تطفو على وجهه مسحة حزن خفيفة. بدا لي من صنف العبوسين لا إراديّاً، من الذين لا يقصدون الأمر. عندما اقترب منّي ليُقابل جانبه الأيمن وجهي، عرفتُه. تسرّبت رائحته إليّ فعرفته. هذه الرائحة التي تصلني منه هي نفسها رائحة أدريان ومحمود وقبلهما رائي ورامي.
سرٌّ ما ينمو في أجساد الرجال عندما يطؤون الواحدة والأربعين من العمر. تخرج الروائح منهم على شكل كومة من الأسرار. رائحة لا مجال لصدّها... شبيهة برائحة التراب، لا شيء مُصطنع فيها، تخرج منهم مهما حبسوها تحت عطورهم، شبيهة برائحة الكوكب إذا ما أمطرت في الثالث عشر من أيلول من أيّ عام.