منذ يومين بدأت عينايَ تختبئ خلف ستار جفوني كطفلة يربكها الخجل بينما تحاول استراق النظر إلى ضيوفهم الغرباء، في الحقيقة هذا ليس صحيحًا تمامًا؛ لقد بدأت عيناي بالذبول، الوردة الجميلة التي تحب البكاء يريد أن يقطفها الذبول بينما تستمر في غرقها في تحديقٍ مطوَّلٍ في البعيد، البعيد الذي لا تراه بل تتخيله، البعيد الذي يصيُّرنا عبيدًا ويجعل الأفق طاغية، أنا لا أقول ذلك لأن حرارتي مرتفعةٌ الآن وصوتي محطَّم لكن الحقيقة أن البعيد ظل شيئًّا يسكن الهامش المكهرب في خاطري وتلك بقعة في زاوية مزعجةٌ وبعيدة لا تستطيع أمي أن تنظفها، تغضب، تناديني، لا بد أن تُنظّف، لن تتوقف عن التفكير فيها؛ لا بد أن تُنظَّف، أمي تصر، نعمل معًا، تغضب من كسلي، وحرارتي مرتفعة وبالتأكيد أنا لست أمي والبعيد بقعة في زاوية مستعصيةٍ لم أملك الشجاعة الكافية لمحاولة لمسها، إنني أخاف، لازلت أخاف مما لا أعرفه أو مما لا أريد أن أعرفه بوضوحٍ يا ماما!
لم تكن هذه المرة الأولى في غربتي التي تقود فيها الإنفلونزا جيوشها إلى صدري، ربما هي الثالثة على أقل تقدير، الشعور ليس مختلفًا، مؤلمٌ ومدججٌ بالصداع والتعب، ولكن الإنسان بالتأكيد ليس ضعيفًا إلى ذلك الحد الذي قد تهزمه فيه إنفلونزا عابرة، هذا ما كنت أظنه قبل أن أغترب، ولكن الإنفلونزا كانت أذكى مما أتصور؛ بالقليل من الإنفلونزا والكثير من الذاكرة هزمتني، تلك الإنفلونزا التي لم تكن سوى لعنة الأمهاتِ البعيداتِ أكثر مما نتصوَّر القريباتِ أكثر مما يتصوَّرنْ، وأنا وَقعْتُ في ذلك الفراغ بين قربهنَّ وبعدهنَّ، عَلِقتُ هناك وبدأت الهلوسة بحرية، هذا ما تجاهلت كتابته بل وذكره لشهور في محاولةٍ بائسةٍ لإقناع نفسي أن كل ذلك ليس أكثر من خيالات رجلٍ تلسع الحرارة المرتفعة جبينه بينما يحلم بالوجوه، الكثير من الوجوه.
كنتُ أناديها يَمَّا\يُمَّا وإن كانت غائبة أناديها أَمِّي ولطالما أردت أن أناديها ماما وأعترف أنني ولفترة قبل أن أتصالح مع الكثير من الأشياء كنت أتمنى أن أناديها ماما وأعترف أيضًا أنني كنت أهبلًا خاف من رقَّةِ تلك الكلمة، بدت جميلة، أجمل من أن أقوم بنطقها، هل أمسكت نفسي متلبسًا وأنا أتدرب على لفظها سرًّا؟ لن أنكر ذلك لكنني تجاهلت نفسي، هَرَبْتُ مني إلى أن اعترفت الآن وعدت تائبًا إليها ولو مرةً على الورق. وأنا أتذكر الوجوه الآن، أغرق في الذاكرةِ عدوَّة الإنسان الأولى، صخرته التي يظل يحملها فوق ظهره إلى أن يَسُدَّ بها قبره في النهاية، حرارتي مرتفعة ولا صوت في الغرفة إلا صوت زكامي ولست أعلم إن كنت أحاول الاستيقاظ أو أحاول النوم فلا فاصل بين النوم أو الصحو إلا يَديْ ماما البعيدة. ماما الجميلة من سمح للشمس بالاستلقاء على جبهتي؟ ماما الجميلة من وضع قدميَّ في القطب الجنوبي؟ ماما الجميلة كيف كنت تعدين عصير الليمون ذاك؟ ماما الجميلة لماذا لا تردين؟ ماما الجميلة، أرجوك، لمرة واحدة فقط، زمليني زمليني، لا ملائكة بالقرب ولست أودُّ تقمُّصَ أي نبوة لكنني مشتاق ولا يطفئُ نار جبهتي سوى يديك أو ربما الموت. رأسي يدور، الإنفلونزا بسيطة ولكن الإنسان ضعيفٌ إلى الحد الذي قد تهدم إنفلونزا عابرةٌ مشبعةٌ بالذاكرة كل الأساطير المتخمة عن المنطق والمستقبل واستكشاف العالم والتجارب الجديدة، ببساطةٍ كل ما شيده الإنسان حول نفسه ليقنعها بالصبر. هذه الإنفلونزا التي تهدم الإنسان، التي تقضم رغيف منطِقِه وتتركه عاريًا إلا من حزنه، لم تغادرني منذ أيام.
رأسي يدور وثمة موجة زكامٍ تخنق بيديها اليابستين كلمةً فكَّرت بالخروج من فمي، عيوني أسيرة البعيد وأحاول التأكد أنني لا أحلم، أتكبَّد عناء القيام لإشعال الضوء، تولد الغرفة ثانيةً بعد طول ظلام، لا شيء فيها سوى خيالاتي، غربتي والكثير من الذاكرة والظلال، ماما أنا آسفٌ لأنني تأخرت بالاعتراف، آسفٌ لكوني أنانيًّا يحتاج لمرضٍ يُتعبه كي يتذكر أنه، وبالمحصلة، لم ولن يعاني تجربةً أشد قسوةً من تحول ماما إلى سجينة الشاشات المسطحة!