حياتي تنهار. حياتي الحبيبة، التي شيّدتها على امتداد أكثر من أربعة أعوام ونصف، تحتضر. زمام أموري تفلت من يدي، أتحوّل إلى شخص لا أحبه، لا أستطيع العيش معه، والأسوأ انّني لا أتمكن من إيقاف هذا التحول. حدث كل هذا بسبب عودة الكهرباء إلى المجيء دون تقنين. إليكم الحكاية.
منذ كانون الثاني 2012 ازدادت ساعات التقنين الكهربائي بشكل كبير في أنحاء سوريا كافة، بسبب ما تعيشه البلاد. في ذلك الشهر، كنت أدرس في غرفتي المستأجَرة استعداداً للامتحانات الجامعية. حين تنقطع الكهرباء ليلاً أشعل شمعة، وعندما تعود أطفئها وأشعل النيون.
مع تتالي الليالي انتبهت إلى أنّني أدرس بشكل أفضل، وبانسجام واستيعاب أكبر في نور الشمعة، فظللت أبقيها مشتعلة حتى عندما تعود الكهرباء. كانت الشمعة اكتشافاً بالنسبة لي حينها، حيث انّنا كنا نستعمل الشواحن الكهربائية في بيتنا، حين كانت الكهرباء تنقطع بسبب الأعطال التي تسببها عواصف الشتاء. واستمرت الشمعة نور حياتي الليلية منذ ذلك الشهر. ثم بعد أشهر أخرى زادت ساعات التقنين، ولم تعد مدّة مجيء الكهرباء تكفي لمشاهدة فيلم أجنبي بالكامل، فقلّت مشاهدتي للتلفزيون الذي صار أداة تعذيب، إلى أن امتنعت عنه كلّياً هرباً من أخبار الموت ومشاهده، ومن رؤية الخراب العام، ولعدم إمكانية إكمال فيلم أو مسلسل أو مباراة كرة قدم. لم أعد أهتم في ما إذا كانت الكهرباء مقطوعة أم متوفرة، ولا أحفظ برنامج التقنين ومواعيده المتغيّرة التي تشغل بال الآخرين، إذ ينظّمون شؤون حياتهم على أساسها. أنا بنيت حياة قديمة بلا كهرباء، عشقتها في حكايات جدي ورفاقه، ووجدت نفسي فيها فجأة بسبب أوضاع استثنائية. تخرّجت من الجامعة بعد أن درست كما كان يدرس طلاب أواسط القرن الماضي، وعدت إلى البيت في الضيعة. رفضت وضع "ليد" في غرفتي، عكس بقية غرف البلاد. ظللت أغمر روحي في النور المبهج للشمعة، النور الشفقي الذي أسبح فيه بفرح كبحر دافئ عميق وقت الغروب، وصرت أقرأ الروايات، إذ إنّني ومنذ تخرّجي لم أفعل شيئا غير ذلك. أسافر من خلال الروايات عن الواقع القبيح، وأزور معظم أنحاء العالم. أقرأ كل ما يقع تحت يدي، دون أن أقترب بالطبع من الروايات الكثيرة التي أخذت تتناول الحدث السوري، أو من الصفحات السياسية في الجرائد. نسيت كلّ ما تعلمته في الجامعة بعد مضي ثلاث سنوات على تخرجي منها، ولم أبالِ بذلك وأنا غارق في غمار سعادتي.
لكنّ المشكلة الوجودية التي وقعت فيها، الكارثة التي تهدد حياتي، بدأت مع أول يوم من أيام العطلة الطويلة لعيد الأضحى، حيث قررت وزارة الكهرباء أن تمنح التيار للمواطنين دون تقنين، كهدية بمناسبة العيد. خرّبت هذه العيدية حياتي. وجدت نفسي خلال هذه الأيام أنسحب من غرفتي، وأجلس أمام التلفزيون لساعات طويلة. هناك نوع من الحنين في داخلي نحو هذه الآلة الغبيّة، الأمر أشبه بعودة صديق طفولة غاب لسنوات، ولا بد من الجلوس معه والاستماع إلى أحاديثه ومستجدات حياته. عاد بالإمكان مشاهدة فيلم في جلسة واحدة، وهكذا وجدت نفسي أشاهد سبعة أفلام أو ثمانية في اليوم، أكثرها ممّا حضرته سابقاً. عدت كما كنت قبل عشر سنوات، ولداً أضاع بداية حياته وهو يشاهد حيوات الآخرين. هناك أكثر من رواية مُعلَّقة عليَّ إكمالها، لكنّي توقفت عن القراءة تماماً. ولكي تكمل معي، أفسدت على نفسي قراءة بعض أهم الروايات التي عندي بمشاهدة الأفلام المأخوذة عنها. شاهدت في الأيام الماضية فيلمَي "غاتسبي العظيم" و "دكتور جيفاغو"!
ماذا عليَّ أن أفعل؟ ما الحل؟ لا يسعني إلا انتظار انقضاء عطلة العيد، وعودة ساعات التقنين الطويلة التي ستمنعني من الانسجام في المشاهدة. أشعر أنّني سأتحول إذا ما طال الأمر أكثر من ذلك إلى شخص مثل جلنار أو سمير خطار، سأتحوّل إلى مجنون مشعّث تهدّد به الأمهات أولادهن الأشقياء، أزعق في الطرقات وأطارد المارة، شأن من فقدوا حياتهم العزيزة التي بنوها بحب. ولكن ماذا إن تحسنت ظروف الكهرباء في الأشهر القادمة وقلّت ساعات التقنين؟ ما العمل حينها؟ ربّما عليًّ أن أحكي مع ناجي الذي عندنا، أبرطله وأطلب منه أن يقطع الكهرباء، ويخرّب الآلات. لقد صرت مثل ذلك الصبي، سليم، أجلس كالأهبل أمام التلفزيون طيلة اليوم، مبتعداً عمّا صار بمثابة عمل لي.
لا يسعني ختاما إلا أن أحسد الصحافي، وأن أحسد كل من تنقطع عنده الكهرباء. أتمنى له السلامة من كل خطر، وأفهمه تماماً بسبب الصدمة التي تلقاها عندما هرب من الواقع إلى الخيال، فوجد الواقع البشع قد سبقه إلى الخيال. أنا أيضا هربت من الحاضر البشع إلى الماضي الذي أجده أجمل وإلى الروايات الأكثر جمالاً وبعداً عن الواقع، فعاود هذا الحاضر ملاحقتي في الأسبوع الأخير حارماً إياي من حياتي الحبيبة.
أريد كذلك أن أتوجه إليه بالشكر لأنّه أوحى لي بكتابة هذه الحكاية من خلال حكاياته التي ليست عن انقطاع الكهرباء؛ كانت الحكاية الأخيرة منها هي كل ما قرأته في الأسبوع الماضي، ولأنّه أتاح لي الفرصة لإيصال صوتي، الذي آمل أن يكون بمثابة مناشدة للوزارة: اقطعوا الكهرباء، أرجوكم. عودوا إلى التقنين الطويل القاسي، من فضلكم. لم نعد معتادين على الكهرباء دون انقطاع. نشعر بالغربة.
(دمشق)