تأخذك في بارانويا .. شعور يتراوح بين جنون المها وارتياب فرحها ..
هذيان باضطهاد كالذي تعرضت له مبانيها العتيقة من هدم وتشويه .. وهويتها الثقافية من تعطيل .. و بحرها من استغلال وصخر وطمر .. وكالذي عاشه تنوعها بين المسلم والمسيحي والوثني واللأدري من اغتصاب ..
ظن عجيب بأن سبب كل ألم هو مواطنك نفسه الذي يختلف عنك..
خوف لا تقوى على طرده.. خوف عليها .. وعلى نفسك وعلى من تحب منها..
غريب هو هذا الذي تشعر به حين تدخلها .. يختلط في حضرتها الخوف والارتياح ..ينمو في رأسك هاجس خفي وخوف مستتر من حصول شيء سيء ليس بالحسبان.. رصاصة طائشة .. انفجار مفاجىء.. سائق غاضب ..أو مستعرض مجنون على الدراجات النارية..
فيها تتجلى كل أنواع الصراعات .. صراعات الاشتراكية والرأسمالية, الصراعات الطبقية, الصراعات الدينية, الصراعات الحزبية وغيرها .. وكيف لا.. اذ كانت هي نفسها تتخابط في صراع البقاء منذ أن وجدت ..
بحق هي بارانويا خاصة ..
أحياء فقيرة مكتظة ..بأهلها, بعشوائيتها, بكلابها وقططها الشاردة.. بأسواقها المتداخلة .. ببيوتها المتصدعة وأبنيتها المتداعية .. التي تكثر على شرفاتها ستائر من القماش الممزق.. وتنتشر اشتراكية الفقر بين اهلها .. حيث يغلب الظن بأن مسؤولية الفقر وسوء الحال تقع على عاتق من يجاورهم على بعد أمتار قليلة ..
فهنا.. أحياء برجوازية .. تفوح منها رائحة الرأسمالية الكلاسيكية .. هنا الستائر زجاجية لامعة.. والكلاب مدللة مغناجة .. والأبنية أنيقة منظمة تحتضن قلة من الأغنياء أحيانا .. وأحيانا ما تكون خالية الا من وحشة الرفاه الذي يبدو مخيفا خاصة في لحظات السكينة النادرة ..
هي هذه المدينة التي تدفع اهلها لايمان مبالغ فيه .. فهم تارة المتدينون الطائفيون .. يتنقلون بايمان أعمى بين جامع وكنيسة ويبتهلون بين جرس وآذان .. وتارة أخرى هم المسيسون المتعصبون بين حزب وتيار وحركة وتنظيم ..
وفي مقلب آخر هم المنفتحون من رواد الملاهي والنوادي الليلية المتفلتون من القيود الضيقة .. وهم كذلك العلمانيون المدنيون .. الذين يعزفون على مزمار الوطن لانقاذه من حشرات فساده ..
تذهل لفرط التناقض فيها .. تراها المنكسرة والمنتصرة .. الفتاة والعجوز .. الوفية والمتنكرة .. العاهرة والشريفة .. المتألمة والسعيدة .. المكترثة واللامبالية.. تراها كل شيء .. تظن بها كل شيء .. ولكن لا يمكنك سوى أن تحبها وتحبها وتحبها ..