اسمي نورالدين ولا أكره النمل ولقد دست عتبة العشرين منذ مدة قصيرة والسطور التالية غير مهمة ولا يجب أن تشغل بال أحدٍ وكاتبها بالتأكيد لا يعاني من الفراغ أو الوحدة.
مرةً كنت طفلًا ولسوء حظي المفرط شاهدْتُ بحياد الموتى نهاية قصة سرب نملٍ شجاع. حينها شاهد أطفال الحي خطًّا أسودَ طويلًا تحسبه مرسومًا على الأرض من استقامته. تبادل الصبية نظراتٍ لامعةً وجرى بعضهم لإحضار لوحٍ خشبيٍّ طويلٍ، بدا اللوح الخشبي ثقيلًا إذ اضطر أربعة صبية ضخامٍ لحمله من الأطراف، حملوه، وقفوا فوق امتداد الخط الأسود تمامًا، نزل ظله فوق الخط الأسود، تبادلوا بسماتٍ تفوح منها رائحة الجريمة، وفجأةً أسقطوا اللوح الخشبي على الخط الأسود، أطبق اللوح على النمل، وبينما لم يوجد أحدٌ ليبكي شهداء النمل تعالت ضحكات الصبية المجنونة وتناثرت رائحة نصرٍ ما في المكان. لم أحرِّك ساكنًا، لم يتجاوز دوري في تلك الجريمة ارتداء جلد الحياد وصمت، لكن ولسببٍ لا أعلمه كان عليَّ أن أدفع ثمن ذلك آلافًا من الكوابيس المدججة بالنمل، لسنوات سلب النمل حقي المقدس بنومٍ هادئٍ بل وأحيانًا اجتمعت عليَّ ليالي النمل وليالي القصف في مدينةٍ لا يزال اسمها غزة.
كل هذا الفراغ أيقظ ذكراي عن النمل بعد أن نامت على رف الروح طويلًا، أنا في العشرين، لم أعد في العاشرة وليس بالإمكان أن أهرب من سريري فزعًا إلى سرير أمي لكن يا رجل كل هذا الفراغ الذي يستهلك روحي كمدخِّنٍ عجوز لا يعامل سجائره بحنان يشبه ذلك النمل الذي ظل يلاحقني في مناماتي لسنوات، بائس وحزين ويزحف بثقةٍ وبطء، يبدو مسالمًا ولكنه إذ يقرر تدمير أحدهم: يحاصره، يسلب مناماته، ينشد أناشيده المقدسة كلما احتل بقعةً جديدةً من روحه، ولسوء حظي الشديد مشكلتي مع الفراغ/النمل أنه ليس حلمًا لأحاول الاستيقاظ منه، ببساطةٍ إنه لعنة. أشعر أنني اكتشفت الفراغ حديثًا، لم يحاصر حياتي فراغٌ كهذا من قبل، ربما تفرض ظروف اغترابي صبغتها على احساسي المفرط بالفراغ، لا أحد بالقرب، أو من نريدهم بالقربِ بعيدون، لساني جاف وحروفي بلا قدمين، ما هو الفراغ؟ هل هو النمل الذي ظل يفرض على مناماتي إتاواتهِ لسنوات؟ أم هو حيادي المجرم؟ في الحقيقة ربما أنا لا أكره النمل لأنني أخافه وأشبِّه الفراغ بالنملِ كي أتجنب مواجهته، أنا جبان، ربما، يييه أنا لا أعرف، لكنني واثقٌ أن الفراغ، الفراغ المستبد والمدجج بالوحدة والغربة، أقوى من أن أواجهه، ربما!
هذه الأيام وفي كل الأيام التي لا تجبرني فيها الحياة على انشغالٍ مصيريٍّ يتسلى الفراغ\النمل بسرقة روحي، يعد شايه المليء بالقرفة بينما يزرع الوحدة على أديم قلبي، يجلس، يَمُدُّ قدميه باسترخاءٍ ويشرب شايه تاركًا مرارةَ لعناتٍ على شفتي. هذه هي حياتي: ضحية ثنائية الفراغ الذي لا أسيطر عليه والانشغال الذي يسرقني مني، وأنا تسكن أحداقي الحيرة مع قليلٍ من النعاس والرغبة في الهرب. في الحقيقة أود الاعتراف لكم، لطالما تمنيت أن أكون نملة، على الأقل كنت سأقتل كل ذلك الفراغ المستبد وربما أفرح بكل ذلك الانشغال القاتل، وبلا حزنٍ سأستسلم لقدري عندما يمسكني أحد الصبية المشاغبين، يرفعني أمام وجهه بينما ترتدي ابتسامة منتصرٍ وجهه ثم يبدأ تجاربه على جسدي المتناهي في صغره. "هذه أمنيةٌ بائسة"، أنا أعرف؛ لقد قفزت هذه الجملة إلى عقولكم، بس معلش، على الأقل وجع الرأس فيها أقل!
لا أحد في السكن الطلابيِّ إلا أنا والفراغُ وبضعة أصدقاء، سيأتي زملائي في الغرفة -الذين لا أعرفهم-بعد قضائهم للعيد مع عائلاتهم، أي نعم أنا لا أعرفهم ولكنني أعرف شيئًا واحدًا إنهم وحينما يفكرون بقضاء الإجازة مع عائلاتهم لا تكهربهم لعنة "معبر رفح" مثلي! السكن الطلابيُّ فارغ، الغرفة فارغة، قلبي فارغ ويتسلق حنجرتي خرسٌ مر. أنا أعلم؛ ثمة خيطٌ دقيق يفصل بين الوحدة والفراغ ولكنني -ومن شطارتي-أزلت ذلك الخيط، خبَّأته بحرص، إنه مهمٌ لذلك اليوم الذي سأجعل منه مشنقة انتحاري لكن بالتأكيد، أنا نورالدين الذي لا يكره النمل، لا أعاني من الفراغِ أو الوحدة، بالتأكيد يعني.