وقعت أحداث القصة التي ستقرأونها اليوم قبل أكثر من عام. ربّما سمعتم قصصاً تتقاطع معها في بعض التفاصيل، لكنّ الأكيد أنّكم لم تسمعوا مثلها من قبل. قادتني آنذاك سلسلة من المصادفات الغريبة إلى شخصيّاتها وعرّفتني عليهم. لماذا أرويها اليوم؟ لأنّ وقائع مماثلة حصلت معي مؤخّراً، لكنّني، وبسبب معرفتي بالحكاية القديمة، نجوت!
أوك، لا تذهبوا بتفكيركم بعيداً. ليست حكاية عن الأمير الوسيم الذي حاول أعداؤه في القصر إطاحته. وهي ليست حكاية عن الجنّ والأشباح أيضاً، لذا لا حاجة للخوف أو الهلع. سأحكي لكم عن الصراف الآلي. نعم، الـ "كاش ماشين"، ماكينة سحب النقود، الـ "أي.تي.ام.".
كان صوت بكاء خفيف ينبعث من أحد المكاتب في الطابق. صرت أقف قرب الأبواب وأحاول العثور على مصدر الصوت. حسناً إنّها واحدة من زميلاتي. أدخل وأحاول تهدئتها، أسألها عن سبب بكائها. تمسح بالمحرمة الكحل الذي فسد حول عينيها. "ما بدي يصير فيي متل سمير"، قالت. "مين سمير؟". تمخّطت. "الماكينة بلعت المصاري قبل ما آخدن وحسمتن من حسابي. وإيه دقيت ع البنك، قبل ما تقلي. بس خيفانة يصير فيي متل سمير". بدأ يدوخني هذا الاسم، "مين سمير؟". لم تردّ عليّ. استدارت نحو شاشة الكومبيوتر وبدأ تكتب بعصبيّة. ثم قامت. "أنا رايحة ع البنك. كلّ ما يحولوني عند حدا، بتطلعلي فيروز، وما حدا بيرد". أشارت إلى شاشة الكومبيوتر، "شوف مين سمير". ثمّ ركضت إلى المصعد.
"العدالة لسمير خطّار". صور لرجلٍ تجاوز الخمسين، هيئته عادية وملابسه عادية أيضاً. لديه كرشٌ بارز قليلاً. صور لبطاقاتٍ بنكية وشيكات وفواتير. دعوات لتحركات وتظاهرات في وجه حيتان المال. آخر تحديثٍ لهذه المدوّنة كان قبل عشرة أعوام، وأوّل تدوينة كانت قبل 12 عاماً. صاحب المدوّنة يدعى x، دون أيّ معلومةٍ إضافية. رجعت إلى التدوينة الأولى في العام 2004، وبدأت بالقراءة.
"استيقظ سمير خطّار صباح اليوم، على إثر أحلام سادها الاضطراب، ووجد أنّ أوشاماً على شكل عملات من فئة الخمسين ألفا والمئة ألف ليرة بدأت بالظهور على كفّه الأيمن. كانت ثلاثة أشهر قد مرّت على اليوم الذي ابتلع فيه الصراف الآلي ثلاثمئة ألف ليرة من حسابه، بسبب انقطاع الكهرباء عن الآلة أثناء سحبه للمال. وما زالت المشكلة حتّى اليوم دون حلّ بسبب تلكؤ بنك ...".
أشعر أنّني قرأت هذه الجملة في مكانٍ ما. تشبه افتتاحية رواية "التحوّل" لكافكا. البنك المذكور هو البنك نفسه الذي أتعامل معه. لكن، أوشام على شكل عملات؟ هاها.
أواصل القراءة. هناك صورة للسيد سمير يبدو فيها أنّ الأوشام بدأت تنتشر على قدميه أيضاً. غريب. بعد تدوينات عدَّة تحوي تفاصيل عن الحادثة، من الساعة التي استيقظ فيها سمير في ذلك اليوم ودخوله الحمام، وصولاً إلى زيارته للبنك وإجابة مسؤول خدمة الزبائن الدائمة بأنّ المشكلة قيد الحل، أصل إلى تدوينة بعنوان: "مقابلة مع بابا". تحوي فيديو صُوِّر بكاميرا هاتف، يظهر فيها سمير لوحده مِن دون مَن يُجري المقابلة، وقد بدأت الأوشام تظهر على وجهه. يبدو كما لو أنّه لم يحلق ذقنه منذ فترة، وأنّ أزرار قميصه سويّت على عجل.
- "بابا، خبرنا شو صار معك بقضية الـ300 ألف ليرة اللي بلعتهم الماكينة؟".
- "تعبت من المشوار كل يوم ع البنك. صرت دقلن. ما بيطلعلي غير فيروز، نغمة انتظار. نطرتك أنا، ندهتك أنا، رسمتك على المشاوير. يا هم العمر، يا هم الحمار، يا حمار. فيروز، فيروز. هلكت. دورت الراديو بالسيارة من كم يوم. طلعتلي فيروز. وقفت بنص الشارع وخلعت الراديو. ارحموني بقى...".
يبدأ الرجل باللهاث. يبدو على وشك الإصابة بنوبة قلبية. يرمي المُصوِّر الهاتف على الكنبة. تصير الشاشة سوداء.
أواصل القراءة، تدوينة تلو أخرى. تعود زميلتي. أسألها عمّا حصل معها. "قالولي تعي بكرا. اليوم ما عاد في وقت". تبدو أهدأ قليلاً. أسألها من أين تعرف سمير خطار. "كان جارنا".
قرأت قرابة 500 تدوينة حتّى الآن، بعضها قصيرٌ جدّاً وبعضها طويل. رسائل، شكاوى، مناشدات، صور ومستندات. "أناشدك يا سيادة الرئيس أن تتدخّل لحلّ مشكلتي. أطرق بابك لأنّني أعلم أنّك لا تردّ أحداً...". "أنا، المدعو سمير خطّار، مضى عام ونصف على اليوم الذي ابتلع فيه الصراف الآلي ثلاثمئة ألف ليرة من حسابي. قدمت اعتراضاً تلو اعتراض دون أن أحصل على جواب...". "هناك خطأ في السيتسم، نعمل على حلّه. بليز مستر خطار بدّك تصبر شوي".
صرت في منتصف العام 2005، وآخر تدوينة نُشرت في الشهر الأوّل من العام 2006. لا جديد يُذكر بالنسبة للقضية، لكنّ جسد سمير بدا مرعباً. صارت بشرته داكنة، شديدة السواد، بفعل الأوشام التي تتراكم عليها، من رأسه إلى أخمص قدميه. مؤخّرته لم تسلم أيضاً من الخمسين ألفا والمئة ألف وحتّى العشرين ألفا.
أصل إلى كعب الصفحة الأولى للمدوّنة. "دخلت مع بابا إلى البنك اليوم. شتمنا الأمن ورفضنا الامتثال لأوامرهم بالوقوف. وقف بابا أمام المدير: ما عرفتني؟ هزّ الأخير رأسه نافياً. أنا الحمار. مستغرب؟ أنا الحمار. هاهاها. الحمار. بدكن تردوا المصاري؟ قفز إلى المكتب وبدأ يُخرج من جيوبه أموال لعبة المونوبولي ويرميها في الهواء. ما عرفتني؟ الحمار. صُدم المدير. حتّى أنا لم أكن أتوقع من بابا أن يفعل ذلك. سحب الرجل من جيبه مئتي دولار وأعطاهم لوالدي، الذي خرج تاركاً إياه مذهولاً".
"حُلّت وأخيراً"، أقول لنفسي. أضحك لا إرادياً. لم يُنشر بعد هذه التدوينة سوى واحدة. "اختفى بابا منذ ذلك اليوم. نشرت هذه التدوينة بعد الظهر، لكنّه لم يظهر في المساء، ولا في المساء الذي تلاه، ولا في الأيّام اللاحقة. دمّر هذا البنك حياة والدي. خلال هذه الأشهر الثلاثة سمعت أخباراً عن رجلٍ جسده مليءٌ بالأرقام في شوارع المدينة. وقامت إحدى الجرائد بنشر خبرٍ عن رجل يثير فزع الناس ليلاً في شارع الحمرا. لكنّني لم أتمكن من الوصول إليه. الرجاء ممّن يرى رجلاً مشابهاً للذي في الصورة الاتّصال بي على هذا الرقم...".
لحسن حظّ زميلتي أنّ أحد أقربائها يعمل في البنك، إذ حُلّت مشكلتها سريعاً. وسافرت هي بعد أشهر عدَّة لإكمال دراستها في الخارج. قبل شهرٍ تقريباً، قبل الغروب بقليل، انقطعت الكهرباء عن الماكينة وأنا أسحب منها. اتّصلت بالبنك، فردّت عليّ فيروز: "نطرتك أنا، ندهتك أنا...". أغلقت الخط. تفحّصت يديّ، قدميّ، رقبتي. لا وشوم. في اليوم التالي أفقت باكراً جدّاً وذهبت إلى البنك. لم أعر اهتماماً للموظفين الذين كانوا يسألونني عمّا أريده. طرقت باب المدير ودخلت، "مرحبا، معك الحمار. عرفتني؟".