«يلعن أبوكن ع أبو إيران إلي جابتكن»، تصرخ جدتي عليّ أنا وشقيقتي كلّما غضبتْ منّا. أما زملائي في العمل فيبدأون بالتخمين عن أصلي، «آه فولادكر من تركيا؟»، وبعد أن أقول لهم إنّي إيرانية يبدون تعجّبهم: «بس بتحكي عربي منيح!». حتى الموظفين في الجامعة كلّما ملأت ورقة وضع فيها تاريخ ومحل الولادة، يسألونني: «أأنت من الكويت؟». تدفعني كلّ هذه العبارات لأسأل نفسي كل يوم مَن أنا؟ وإلى أيّ بلدٍ أنتمي؟
ولدت في مستشفى «الصباح» في الكويت العاصمة، والتحقت بمدرسة «الأمل»، إحدى المدارس الهنديّة الخاصة في الكويت. أنا من إيران، كريم وهاجر من مصر، جسيكا ودانا من سوريا، أما شهد وعبد العزيز من الكويت. جمعنا غناء النشيد الوطني الكويتي مع بعضنا، إذ كنّا ننشده كلّ صباح في باحة المدرسة، «وطني الكويت سلمت للمجد وعلى جبينك طالع السعد..».
أحفظ الأماكن وملامح الشوارع جيّداً، «سوق الكويت» و «الحراج» و «سوق السالمية»، أسواق شعبيّة كانت أمي تأخذنا إليها نهاية كلّ أسبوع لنشتري أغراضنا. في نهاية الأسبوع أيضاً كنّا نذهب إلى الحدائق العامة. كنت في السادسة من عمري حين علّمني والدي قيادة الدراجة الهوائية في حديقة «الشعب». أما الواجهة البحرية، أو «البلاجات»، كما تسمّى في الكويت، فلها حصة كبيرة من طفولتي، كنت أقضي معظم العطل هناك. لكن كلّ ذلك لم يجعل مني كويتية. غادرنا البلاد مطلع العام 2006، بسبب انتهاء فترة إقاماتنا، لنذهب ونستقر في لبنان بلد أمي.
تغيّرت الكويت كثيراً اليوم، كلّ العمارات القديمة هدمت لتُبنى مكانها أبنية جديدة، ولم يبق من بيتنا هناك سوى ألبومات الصور. رغم ذلك ما زلت أسهو أحياناً، وأقول عبارات كـ «كنا نحتفل بالعيد الوطني في الشوارع، في الكويت لا نُغلق المحال ليلاً، المركز العلمي لدينا جميلٌ جدّاً...».
***
لم أتقن اللغة الفارسية يوماً، مع العلم أنّني إيرانية أباً عن جد، وهو الأمر الذي يستغربه كلّ من أعرفه. كنت أقضي جميع إجازاتي الصيفية في إيران، أتنقّل بين أصفهان، مسقط رأس جدي لأبي، وبقية المدن الأخرى، رغم ذلك لم يتحدّث معي والدي بالفارسية يوماً ولم يحاول تعليمي إياها.
كنّا نتجوّل كلّ عامٍ في الأماكن السياحية نفسها. «سيوسه بل»، أو جسر الثلاثة والثلاثين (فيه ثلاثٌ وثلاثون قنطرة) والذي يعبر فوق نهر يغلق سدّه كلّ صيف خوفاً من الجفاف، ممّا يحرمني من مشاهدة انعكاس القناطر المضاءة على مياه النهر ليلاً. «باغ كلهاي» و «باغ برندكان»، أو «حديقة الزهور» و «حديقة الطيور». كنت أنبهر في كل مرة أزورهما فيها، وفي كلّ مرّة أيضاً كنت أتصوّر هناك كأنّها المرّة الأخيرة التي سأزورها فيه.
في إيران تعرّفت على الأماكن، لكنّني لم أتمكن من التعرف على الأشخاص، إذ دائماً ما شكّل عامل اللغة حاجزاً بيني وبين الناس، حتّى أقاربنا الذين يأتون لزيارتنا عند مجيئنا، لم أتمكّن من القيام بمحادثةٍ حقيقيةٍ معهم. حاولت التعرف على ابن عمّي أمير، عرفت عمره، اللون الذي يحبه، وجبة الطعام المفضلة عنده. لكنّني لم أتمكّن من طرح المزيد من الأسئلة عليه، فهو بالكاد يعرف بضع كلمات بالإنكليزية تعلّمها في المدرسة.
للسبب نفسه، لم أعرف كيف أرجع إلى البيت بعد أن أضعت والدي وشقيقتي في السوق قبل ثلاثة أعوام. لذا كلّ ما كان بإمكاني فعله هو انتظار أهلي على الرصيف لعلهم يهتدون إلى مكاني.
لم يمنعني ذلك من أن أحكي لأصدقائي عن جمال «أصفهان نيم جهان»، أو نصف العالم، ومن جلب الهدايا التراثية لأصدقائي في لبنان، دون أن أهتمّ بشراء شيءٍ منها لي، فأنا «بنت البلد» يمكنني الحصول على أيّ شيء منها ساعة أشاء.
***
أعيش في لبنان منذ عشرة أعوام. صرت دليلاً سياحياً لأقربائي الذين يأتون في الصيف. آخذهم إلى الأماكن التي سبق وأن زرتها: بعلبك، وصيدا، وصور. أتجوّل معهم في شوارع الجميزة والحمرا. أحكي لهم عن حرب تموز وأحداث مار مخايل وسبعة أيّار وعن مكب كوستا برافا، وعن التقنين الكهربائي في الصيف.
أحفظ الضاحية الجنوبية حيّاً حيّاً، فأنا أسكن في الشياح وأعرف شوارعها، من الأسعد وعبد الكريم الخليل، إلى حيّ الجامع وحيّ المصبغة. وأشتري حاجياتي من دكان أبو سامر في البناء الملاصق لبيتي.
ردّدت النشيد الوطني اللبناني ستّة أعوام في ثانوية «عمر فروخ الرسمية للبنات» في الطريق الجديدة. وعرفت تفاصيل الصراع الطائفي، بل وصرت جزءاً منه في فترةٍ من الفترات. أذكر جيّداً حين اضطرت والدتي للتوقيع على تعهدٍ بأنّني لن أتفوّه بشعارات سياسية أو دينية لكي تقبل الإدارة أن أتسجّل في الصف الثامن. وشاركت في المظاهرات والحراكات المطلبية. تظاهرات من أجل سلسلة الرتب والرواتب مع أساتذتي في الثانوية، واعتراضاً على التمديد للمجلس النيابي. كما في حراك العام الماضي. هتفت لشعارات لن أستفيد منها لكونني أعتبر أجنبية، لا أصوّت في الانتخابات، ولا يمكنني الانتساب إلى الضمان الاجتماعي، وعليّ كلّ فترة تجديد إقامة «المجاملة» في مقرّ الأمن العام.
هل أنا لبنانيةٌ الآن؟ لا أعرف حقّاً. هل انتمائي للبلد مرتبطٌ بحصولي على حقوقي فيه؟
***
ربّما لست بحاجةٍ لتحديد هويتي، كويتيةً كانت أم إيرانية أم لبنانية. يولد الارتباط العاطفي بالمكان بمجرد عيشنا فيه. نتبنّى قضايا شعبه ونتباهى بجمال البلاد حتى لو لم نعرفها كما يجب.