مياو. مياااااو. ميووو. يتبدّل مواء القطّة طوال الوقت. يعلو صوتها قليلاً ثم يعود لينخفض. تقف القطّة على يافطة "نيون". على الرصيف تحاول فتاة "هيبّية" رفقة صديقها مساعدة القطّة على النزول. في الواقع، كلّ ما يفعله هذان الاثنان هو المواء للقطّة و "فرقعة" أصابعهما.
عادةً لا يُسمع أيّ صوتٍ في شارع الحمرا الرئيسي قبيل منتصف الليل. لولا هؤلاء الثلاثة الآن لكان الهدوء يسود المكان. فجأةً يخترق فان "رقم 4" الشارع ويتجاوز على غير العادة مقهى "كوستا"، وفجأة أيضاً يظهر عشرات الأولاد ممّن يشحذون في النهار مع أمّهاتهم ويركضون باتّجاهه. "سألتك حبيبي لوين رايحين؟ خلينا خلينا وتسبقنا السنين"، ينبعث صوت فيروز ضعيفاً، من الفان على الأغلب، في الوقت نفسه الذي يرتفع فيه صوت قطّة عالياً. تقع القطّة بين أسلاك الكهرباء خلف يافطة "النيون". يسمع صوت احتراق أشرطة الكهرباء وينطفئ الضوء الأزرق الذي ينير الرصيف أسفلها. "القطّة تموت"، تقول الفتاة، قبل أن تبتعد مع صديقها وتبدأ بالبكاء. تقع القطة من فوق. تنفض جسمها، وتلحس ذنبها الذي شوي قليلاً ثم تسير بعكس اتّجاههما.
تحكي لي زميلتي بحماسةٍ عن الليالي التي صارت تقضيها في الشارع مؤخّراً. "تعرّفت ع ولد من اللي بيشحدوا. كل يوم بيجي بيقعد معنا. بعطي تليفوني يلعب عليه". تدعوني للسهر معها مؤكّدة أنّنا سنتسلى كثيراً برفقة هذا الصبي، "اسمه عمر، كتير كيوت. بقضّيها عم يغني ويخبر قصص".
حاولت ألّا أضحك على "العزيمة"، لكنّني لم أتمكن من كبت ضحكتي على الـ "كيوت". لا أحبّذ عادةً أن أتكلّم مع هؤلاء الأولاد. هم قضية أخرى لا يمكن حلّها. لا أستطيع إيقاف الحرب ليعودوا إلى بيوتهم ويمارسوا حياتهم الطبيعية. أساساً ما الذي سأقوله لهم؟
"هيدي هيفا ما بتشبع كل شوي بتاكل. محمد بكذب بصير يبكي ليعطوه العالم مصاري. وهيدي نجلة بيّها بيضربها إذا ما جابتلو عشرين ألف كل يوم". يبدو لي هذا الولد سمجاً، لم أجد شيئاً "كيوت" فيه حتّى الآن. يسخر من كلّ ولدٍ يمرّ أمامنا ويظنّ نفسه فائق الذكاء. تقهقه زميلتي طوال الوقت فيظنّ نفسه "مهضوماً". يكمل حديثه دون أن يزيح وجهه عن شاشة الهاتف، "بس أهبل واحد فيهن سليم، بضل قاعد قدام يافطة الدعايات المضوّاية كلّ النهار. ما بيتحرك. عرفتيها؟ هيدي اليافطة الجديدة اللي تحت بربر".
على المقعد الملاصق للمفرق المؤدّي إلى الجامعة الأميركية شاهدت سليم، كما وصفه الصبي السمج. يبدو أكبر منه في العمر. يجلس متربّعاً على المقعد بجانب عدّة تنظيف الأحذية، وهو يحدّق في اليافطة الإلكترونية التي تتبدّل الإعلانات عليها. وقفت وراءه. كانت المرّة الأولى التي أنتبه فيها لوجود هذه الشاشة، وكيف يتغيّر لون الشارع مع تغيّر الإعلانات عليها. "هيدا مسطّل. بتجي أمّي بالليل بتضربه ليطلع بالفان". ألتفت فأجد هيفاء تشير إليه وتضحك. أسير مبتعداً وأنا أفكّر لماذا يقضي صبيٌ نهاره بالتفرّج على شاشة إعلانات؟
دفعني شكّي بصدق الأولاد لأخذ يوم عطلة أتفرّغ فيه لمراقبة سليم. جلستُ من الثامنة صباحاً حتّى الحادية عشرة ليلاً في مقهى يمكّنني من رؤيته. لم يتحرّك من مكانه. ظلّ قاعداً يحدّق في الشاشة. لم ينتبه للمرأة التي ظلّت تلكزه ليفسح لها مكاناً للجلوس، ولم يردّ على رفاقه الذين يسخرون منه. كلّما مررت أجده على هذه الحال وفي عينيه خشوعٌ لم أرَ مثله قط.
ها هو سليم، يقف في "التايمز سكوير" في نيويورك. يرمي عدّته على الأرض، ويبدأ بالنطّ كالقرد من شاشة إلى أخرى. ينظر مطوّلاً إلى كل واحدةٍ فيها دون أن يرفّ له جفن. يركض ذهاباً وإياباً في الساحة وهو يضحك. ينتبه فجأةً إلى جدارٍ كبيرٍ تتغيّر الإعلانات عليه بشكلٍ متواصل. يصرخ بأعلى صوت: "الله أكبر! وصلت ع الجنّة...". وقبل أن ينهي جملته تصل مروحيةٌ تهبط منها فرقة كوماندوس. عشرة "ترامبيين" يوجّهون فوّهات بنادقهم للصبي المذهول. أوك. أعرف. يجب أن أتوقّف عن مشاهدة نشرة الأخبار.
لم يتزحزح سليم من مقعده، لكن قبل يومين فقط تغيّر كل شيء. رأيته يركض في الشارع، يلاحق الأولاد، ثم يتوقّف ليطلب بإلحاحٍ من أحد المارة السماح له بتنظيف حذائه. مشيت باتّجاهه فاقترب مني. لا أعرف لماذا توتّرت. صار العرق يخرج من مسامي كلّها، وابتلّ قميصي. قبل أن أتمكّن من تحريك لساني. بادرني بالكلام "أستاذ الله يخليك، بدي ركّب اشتراك"، قال وهو يشير إلى حذائي. ناولته خمسة آلاف ليرة وأشرت له بأنّني لا أريد منه شيئاً. شكرني واستدار لينقض على شخصٍ آخر. "هذه فرصتي الوحيدة لأعرف الحكاية"، قلتُ لنفسي. استجمعتُ قواي، وبحركةٍ لا إرادية حرّكت يديّ إلى خصري، كما يفعل كلينت إيستوود في أفلام الـ "ويسترن"، لكنّني لم أجد أي مسدّس. "الشاشة. ليه منّك قاعد قدام الشاشة؟". انفجر الصبي ضاحكاً، فانتبهت عندها للشارب الذي بدأ يشقّ طريقه فوق شفتيه. "لأنّو لازم جمّع حق اشتراك الكهربا"، قال لي مستغرباً. "ليه كنت تضلّ قاعد قبالها؟"، رددت بتوتّر. مشى الصبي أمامي وتبعته. كانت الشاشة معطّلة. قال لي الصبي إنّ الكهرباء تظلّ مقطوعةً في بيتهم، فلا يتمكّن من مشاهدة التلفاز في المساء، وإنّه يعاني من ضعف نظر لا يسمح له بأن يرى ما تعرضه الشاشات في المقاهي، وإنّ هذه الشاشة الهائلة تسمح له برؤية الأشياء بوضوح. سحبت من محفظتي عشرة آلاف ليرة وأعطيته إياها ومشيت، وعاد هو للّحاق بالناس.
الآن، قبيل منتصف الليل، وبينما أنهي كتابة هذا النص أخبرتني زميلتي على "واتساب" أنّها رأت "رفيقي سليم مسطل من جديد قدّام الشاشة". أُرسل لها وجهاً ضاحكاً، وأنا أتخيّل "فان رقم 4" يخترق شارع الحمرا الرئيسي الآن، يمرّ بقرب الشابين "الهيبيين" وقرب القطة التي شوي ذنبها، ثم يتوقّف أمام سليم الجالس على المقعد، وبينما يحاول الأولاد والنسوة دفعه للركوب معهم، يخرج من الفان صوت فيروز: "أنا كلّ ما بشوفك كأنّي بشوفك لأوّل مرّة حبيبي، أنا كلّ ما تودّعنا كأنّا تودعنا لآخر مرّة حبيبي".