كُلّما ذُكرت سيرة الحراك، ينظرون إليّ ويبتسمون باستهزاء. كيف يُعامل المجتمع امرأة هربت «خطيفة» مع شاب وتزوّجته، ثم اكتشفت أنّه نذل وعادت إلى بيت أهلها؟ أجل، تماماً.
هذا ما أشعر به كلّما تناقشنا حول الحراك في المنزل. الحراك ليس نذلاً، ولم أعد إلى بيت أهلي هرباً منه، طبعاً. لكنّ هذا المثال يعبّر عن الموقف الذي أوضع فيه في بيتٍ لم يشارك فيه أحد بالحراك غيري. أنا لست وحدي، جميع من كانوا جزءًا من مظاهرات صيف 2015 يُحاسَبون اليوم على عدم إنقاذ العالم من بؤسه. يُحاسَبون، أو يُضحَك عليهم.
كلّ من لم تعجبه فكرة الحراك، يلعب دور الأهل اليوم على من شارك فيه. يُعاتب بتلذّذ من معه الحق في ما يفكّر أو يفعل، مع القليل من روح الأبوية. «قلتلك ما تتحمّم وتظهر بالبرد»، «قلتلّك بلا هالمظاهرات».
ذكرى الحراك سيئة. أُصاب بحزن ممزوج بالغضب كلّما تذكّرته. لم أعالج نفسي بعد ممّا خضناه الصيف الماضي. أبكي عندما أسمع هتاف، أو أرى صورة منه. تؤلمني معدتي كلّما مررت قرب جامع الأمين أو ساحة رياض الصلح. لم أنزل إلى المظاهرات العام الماضي مع أمل بتحقيق الكثير، لا يؤلمني اللا إنجاز. ما خيّب ظني هو تجربة العلاقات في الحراك. تجربة انخراطي بمجموعة ناشطة في الحراك.
الحقّ عليّ. أنا مَن رفعت سقف التوقعات من هذه المجموعة وأناسها. انتظرت «يوتوبيا» داخل حدود الغرفة التي كنّا نجتمع فيها لننظّم مظاهرةً أو نشاطاً سياسياً. نعم، أنا لم أنزل إلى الشارع مع أمل بإسقاط الحكومة، رغم رفعي للشعار. لست غافلة عن تركيبة ما نعيشه. هذا الأمل الساذج حملته عندما كان عمري ثمانية عشر عاماً في مظاهرات 2011، مشيت بمسيرة في صيدا القديمة وبكيت عندما رأيت الناس يتفاعلون معنا، وظننت أنّ الثورة ستبدأ بعدما حملنا مشاعلنا في قلب الزواريب المعتمة. لكنّنا ننضج، يخيب أملنا وننضج.
نزلت إلى الشارع لأنّني أستمتع بالتجربة. لأنّ الذلّ الذي يتكدس يومياً جراء ما نعانيه ونحن نحاول العيش في هذا البلد، يتطلّب أن «أفش خلقي» من حين إلى آخر بمظاهرة أصرخ فيها وأسبّ من كان السبب. هل أنا منافقة؟ ألهذا كنت أشارك ببروباغاندا النزول إلى الشارع ومحاربة النظام؟ لأنزل أنا و «أفش خلقي» مع مئات الأفراد؟ نعم. لأنّ الغضب الجماعي حلو. أبرّر لنفسي، ولا أقسو عليها، ولا أريد أن أقسو على من شاركوني تجربة إنشاء مجموعة «تغييريّة» في الحراك. أنا فقط أواجه خيبة.
في المجموعة كان هناك تهميش لبعض الأشخاص، وكان هناك أولوية لبعض الأشخاص بالمقابل. لا مساواة. ولامرأة تعترف بحقدها الطبقيّ، لم أستظرف هذه الديناميكية. كانت القوة توزَّع حسب مناصب الأشخاص في حياتهم الشخصية، تلميذ أم موظف، تلميذ علوم سياسية أم تلميذ فنون تشكيلية، مدرّس في الجامعة أم محاسب في سوبر ماركت. تماماً كما ينظر ويتوقع المجتمع من أفراد هذه المناصب فيه. من يتحدث أكثر في الاجتماعات، من يقرّر أكثر، من له الحق بوضع المجموعة كلها في موقف ما، قد يكون خطراً، لأنّ «منصبه» الافتراضي يخوله فعل ذلك. ربّما لا مهرب من التراتبية. حتى لو لم تكن مفروضة بشكل واعٍ. لكنّني أتيت إلى «يوتوبيا». وفي الـ «يوتوبيا»، لا أريد تراتبية.
نحن نبيع أنفسنا في المجتمع. نلبس ونتحدث بلياقة ونعمل ونشتري وندرس ونحمل الشهادات. كلّنا نلعب لعبة «الأداء الاجتماعي»، كلٌ حسب ظروفه الاجتماعية. وهذا ليس عاراً، فالابتسام لأقاربك أو لأصحابك في العمل رغم الحاجة للصراخ ربّما، هو أداء اجتماعي، تمثيليّة مقبولة ومبرّرة ولا حاجة للخجل منها. لكنّي لم أرد هذا المسرح في المجموعة. اشتهيتُ فعلاً الحقيقة أو الصفاء. لكنّ المسرح فُرض، نحن أفراد هذا المجتمع، ماذا كنت أظن أنّني سألاقي؟ نعم تقريباً جميعنا نكسر الكثير من القيم البالية في أسلوب حياتنا اليومي، لكنّنا ما زلنا نعيش هنا. أبدو سخيفة الآن بسبب توقّعي. لكنّ ظني خاب فعلاً في من دخل المجموعة ليبيع نفسه، ويبيع المجموعة لـ «سوق النضال».
لم أستطع تحمّل طبقات مجتمعنا الصغير الذي يسمّى مجموعة تغييريّة. ولا «الشطارة» التسويقية للمجموعة ومَن فيها. أأبالغ برد فعلي؟ لكنّني انضممت لأنّني أنفر من تركيبة واقع معيشتنا، لا لأبني مجتمعاً مصغّراً عن المجتمع الأكبر. «عيوشة» أنا ضمن هذه المجموعة التغييريّة. أردت أن نحطّم كلّ شيء، أن ندمّر كلّ المعايير ونبني من الصفر، لكن لا وقت كافٍ لكل ذلك، لأن «الثورة لا تنتظر».