التاسعة والنصف صباح الأحد: يجلس عاملا نظافة أمام مدخل بناء في شارع جان دارك. يدخّن أحدهما سيجارة، وهو يستمع إلى صديقه الذي يحكي له بصوتٍ خافت. عربتا زبالة خضراوان موضوعتان عند حائط يقع قرب المدخل. على الحائط أسندت مكنستان. خيط رفيع من الضوء يتجاوز الأبنية، ويسقط على زجاج شرفة الطابق الأوّل في البناء. يتحرّك على السرير. يحاول تخيّل الحديث بين عاملَيْ النظافة. لا يقوم من سريره. ليست لديه رغبة بأن يقوم. لا يتلذّذ بالعرق على رقبته، لكنّه يعرف الحر الذي ينتظره فور قيامه.
يواصل تخيّل الحديث بين العاملين. يبتسم. يسمع وقع خطوات امرأة. يستحضر وجه حبيبته. يقوم عاملا النظافة من مكانهما. يرمي واحدٌ منهما عقب سيجارته، ويسيران بصمت. عربتا زبالة تتحرّكان من على الحائط قرب المدخل. عن الحائط تختفي مكنستان. خيط الضوء الرفيع، يغيب عن زجاج شرفة الطابق الأوّل في البناء. يقلّب جسده إلى الجهة اليمنى. يرسم مسار عامليْ النظافة في رأسه.
"ما معك مفتاح الأسنسير؟ ما تكذب. افتحلي الأسنسير، يلا". يقفز من سريره. إنّها جلنار مرّة أخرى. كلّما أفاق على صراخها، شتمها وشتم صديقه الذي أقنعه باستئجار هذه الغرفة.
حسناً. هذا الشاب هو زميلي الذي "شغل الأسنسير" المرة الماضية، وأنا الصديق الذي يُشتم كلّما أفاق على صوت جلنار. كان يصرع رأسي كلّ يوم أحد بالشكوى. كأنّني أجبرته على البقاء في الغرفة. يظن الحمار أنّ من واجبي الاستيقاظ يوم عطلتي للردّ على اتصالاته المليئة بالشتائم لي ولجلنار. وما أدراني بجلنار وبجنونها؟
في الحقيقة لا مشكلة في جنون جلنار، إذ إنّ تأثيره عادةً ما يبقى محدوداً بها. لكن "المرا ختيارة، ختيارة. وما في عندها حدا. كل يوم بتنزل من بيتها وبتنقطع الكهربا هي وتحت. وبتضلها عم تصرخ لترجع الكهربا ويمشي الأسنسير"، يقول زميلي.
عادةً ما تنقطع الكهرباء في المنطقة عند التاسعة صباحاً، أي بعد دقائق على نزول جلنار من بيتها في الطابق السادس. وتبقى مقطوعةً حتى الثانية عشرة ظهراً. ثلاث ساعاتٍ يتحوّل فيها الحي إلى جحيم. توقف جلنار المارّة وتطلب منهم إعادة الكهرباء، أو تبدأ برنّ الإنترفون الخاص بكل بيت، لتأمر سكان المبنى بتشغيل المصعد. في المرات التي لا تجد فيها من يتفاعل معها تجنّ تماماً، تبدأ بقرع البوابة، ورميّ أيّ شيءٍ يقع بين يديها على باب المصعد، وإطلاق الشتائم كيفما كان. لطالما ادّعى زميلي أنّ المرأة تكرهه لاعتقادها بأنّه المسؤول عن انقطاع الكهرباء، رغم أنّها تصرخ عليه كما تصرخ على الجميع، ويعتقد أنّ لجارهم أبو مالك دوراً خبيثاً في ذلك. كلّما صادف جلنار في المدخل، يظهر له الرجل وهو يغنّي لفيروز: "يا صبح روّج طولت ليلك خلّيت قلبي نار بلكي بتجي أختك تغنّيلك بلكي بتجي جلنار"، قبل أن ينفجر ضاحكاً في وجهه.
كثيراً ما اضطررت للاستماع إلى أحاديثه عنها وتحليلاته لوضعها. كان يقول أحياناً إنّ علاقة جلنار بالمصعد تشبه أغنية نانسي "أخاصمك آه أسيبك لا". وفي أحيانٍ أخرى يقول إنّها تشبه علاقة الإنسان بالله. تحبّ العجوز المصعد بمقدار ما تكرهه. فيه يكمن خلاصها، وفيه يكمن قيدها أيضاً. تضربه كما لو أنّه قاتل أبناءها، وتشتمه كمسؤولٍ وحيدٍ عن كل مصائب العالم. وحين تيأس تبدأ بضغط أزراره بانكسار، كمن يرجو حبيبه فرصةً ثانيةً يُعيد بها إصلاح ما فسد. أما عندما تكون الكهرباء غير مقطوعة فهي تبقى بقربه، تمسح زجاجه وأزراره وفي عينيها بريق غريب. وفي حال اضطرّت للابتعاد عنه تضع عبوة بيبسي أسفل بابه كي لا يستعمله أحدٌ غيرها. هو لها، ولا يحقّ لأحدٍ أن يشاركها فيه.
قبل أسبوعين دخل الزميل إلى مكتبي ضاحكاً. "اختفت جلنار من البناية. إلها مدّة مختفية. واليوم فتحوا باب بيتها وما لقوها. ارتحنا منها ومن صوتها". أضاف: "والحمد الله هيدا أبو مالك مختفي كمان".
لا أعرف لماذا قرّرت عندها أن أتقصّى أمر جلنار. ربّما هو الفضول وربّما الملل. لم أكن قد رأيتها سوى مرّة واحدة، امرأة تجاوزت الثمانين من العمر، شديدة النحول، ترتدي ثياباً مهلهلة، وجهها مليءٌ بالتجاعيد، وفي فمها سنٌّ واحدة. في كلّ الأحوال قضيت الفترة الماضية بالبحث عنها. لم أخبر زميلي بشيء. تحدّيت الشمس والرطوبة والهواء الساخن، ومشيت كلّ يومٍ من السارولا إلى جان دارك. ادّعيت أنّني أفكّر باستئجار شقّة لأتمكّن من سؤال السكان وأصحاب المحال عن "المرأة المزعجة التي سمعت أنّها تسكن في الشارع". شعرت أنّني المحقق كونان، وسجّلت كلّ ما قاله لي الناس عبر الهاتف. قالت لي المدام في محل اللانجري إنّ المزعجة التي أقصدها تُدعى جلنار، وإنّ بإمكاني أن أستأجر هنا مرتاح البال، فهي اختفت دون أن يعرف عنها أحدٌ شيئاً. أمّا الصبي الذي يعمل لدى بائع الخضار فقال إنّها مجنونة، وإنّها قتلت أختها قبل زمنٍ طويل. فيما ادّعى معلّمه أبو سمير أنّ والدها كان سفيراً للدولة في إحدى عواصم "صنع القرار". بينما أصرّ الحلاق على أنّها أحبّت شاباً فقيراً لم يوافق أهلها على الزواج منه، فقرّر السفر إلى البيرو ليجمع المال ويأتي مجدّداً، لكنّه لم يعد. "بعد خمس سنين ممّا سافر بلشت المرا تجنّ. عم احكيك الدغري"، أكّد لي الحلاق. سمعت الكثير من القصص لا أدري أيّها حقيقي وأيّها مختلق. ولم ينفعني البحث عنها وعن عائلتها على الإنترنت. اختفت جلنار من عالمي كما دخلت إليه.
البارحة أخبرني زميلي أنّ أبو مالك عاد للظهور. رآه في المدخل وبدا له حزيناً. قال لي إنّ الرّجل ردّد هذه المرّة مقطعاً مختلفاً من الأغنية: "وقفت قلبي ع الدرب ناطور تَ فاق ألف نهار وعيت الشمس وزقزق العصفور وما إجت جلنار". قال أيضاً إنّه بدأ يشتاق للصباحات التي كان يستيقظ فيها على صوت العجوز وصراخها. انتبهت عندها أنّني عدت لأستغرق في النوم أيام الآحاد وأفيق متأخّراً. وفكّرت أنّني مشتاق للاستيقاظ في التاسعة والنصف صباح يوم العطلة بفضل جلنار.