كان، بدون علمها، يسمّيها "شهرزاد"، لأنها كانت تقصّ عليه كل ليلة حكاية، بكثير من الجدية والإتقان، بصوت لا تشوبه شائبة. تعرف أين تصمت وأين تتابع ومتى تترك للخيال مداه وكيف تُنهي بأكثر النهايات إرضاءً لجمهورها الذي كان مكوّناً من فرد وحيد: هو.
كان يشعر "كلوحٍ أسود تنظّفه قطعة قماش ناعمة مبلولة، وتمسح عنه كل الأوساخ والهموم"، عندما تبدأ شهرزاده بالكلام. كان اقتران الصوت بتلك الصور والألوان التي كانت تجتاح رأسه، بدون أن يكون له أدنى دور في اختراعها، يصنع كل عالمه في الساعات القليلة التي يمضيها معها.
في القصة القصيرة "شهرزاد" لهاروكي موراكامي، الرجل واقع تحت سحر الكلام، والكلام مادة فيلمية، ربما كان الصمت أشد سينمائية منها، وربما تقع الموسيقى في مكان ما بينهما، تصوغ علاقة الصمت بالصوت، فيرى الرجل صوراً أو ضوءاً أزرق، خارجاً من صوت صديقته..
***
المشهد: هنالك مجهول ما يحرّكنا في الفضاء، على وقع موسيقى مترقّبة، بين النجوم والكواكب. يختار لنا كوكباً بشكل عشوائي فنهبط عليه. نلقي نظرة أولى على المكان. إنها الجحيم. لا حياة. براكين كبيرة وصغيرة، كلها صاحية تماماً، تنفث نيرانها وهواءها الساخن بلا هوادة. صوت الموسيقى يُنذر بخطر داهم: انفجارات/ آلات نفخ.
المشهد: خلايا الأميبا تتحرك في المياه وتنفصل عن ذاتها وتطفو/ آلات وترية. ثمّ أعشاب نحيلة تموج، تأكل كائنات أخرى. مخلوقات رخوة لا لون لها، تسبح في السائل. ثم نرى شكلاً مألوفاً، سمكة؟
المشهد: ديناصور ضخم يتثاءب/ كمنجات. هل رأيت في حياتك ديناصوراً يتثاءب؟ أجد فكرة الديناصورات الناعسة على صوت الكمنجات مذهلة! الكائنات الضخمة بطيئة الحركة، دائماً تبدو أكثر تعاسة من المخلوقات الصغيرة السريعة. أتذكر عين الحوت الزجاجية في فيلم "أنغام فيركمايستر". أتذكّر الفيل الأنثى التي أطعمتها مرّة. أرواح الكائنات الضخمة أثقل منها.
المشهد: مطر، ثمّ جفاف شديد، على الكوكب نفسه/ آلات نفخ. المخلوقات الضخمة تجوع، وتموت ببطء شديد، كما عاشت ببطء. الموسيقى تستمرّ، لا ترحم.
"طقس الربيع" لسترافينسكي، الموسيقى نفسها بكل أطوارها، رافقتنا في رحلتنا حين كانت الأرض جحيماً لا حياة فيها، ثمّ عندما بدأت أولى مظاهر الحياة، وصولاً إلى الديناصورات، فالانقراض.
***
في النصف الثاني من الثلاثينيات، قرّر والت ديزني أن يرسم الموسيقى. أراد أن يصنع مرادفاً بصرياً لعدد من أهم كلاسيكيات الموسيقى، بحيث تصير أشكالاً، ألواناً، حركات، وربّما حكايات محددة لها خط درامي واضح أحياناً. كان فيلم "فانتازيا" (إنتاج عام 1940) مغامرة جريئة، من حيث الفكرة والمضمون، وإنتاجاً هائل الكلفة بالنسبة لفيلم كرتون في حينه. ثماني قطع موسيقية وثمانية مقاطع تحريك كرتوني، لكلّ قطعة، تؤدي 7 من المقطوعات اوركسترا فيلادلفيا بقيادة ليوبولد ستوكوفسكي.
باخ، تشايكوفسكي، دوكا، سترافينسكي، بيتهوفن، بونشييللي، وموسورغسكي هم مؤلفو المادة الموسيقية التي "يرسمها" الفيلم. يقدم لنا رجل بصوت جميل كل مقطع ممهداً لما سيلي. يخبرنا أن بعض الموسيقى يمكنها أن تعني أي شيء، أو شيئاً مختلفاً لكل شخص. وأن بعضها يوحي بانفجار لوني، أو انسياب حرَكي، وأن بعضها الآخر قد يخلق جواً واضحاً أو يخبر حكاية محددة، وأن الفيلم يدّعي أنه يحترم خصوصية كل مقطوعة ويرتجل لوحات بصرية ليست بالضرورة ما أراده المؤلف الموسيقي منها فعلاً، وهذا طبيعي.
***
"لم يبقَ من كسّارة البندق (تشايكوفسكي) سوى اسمها"، يعترف مقدّم المقطوعة، قبل أن ينقلنا إلى المشهد: ليلاً، فوق العشب، تتراقص مجموعة من الهالات الضوئية. نظرة أقرب، ونكتشف أن الهالات هي في الواقع جنيّات صغيرة تبدأ بالانتشار في الغابة ونثر غبارها السحري فوق الأشياء، على صفحة الماء الهادئة، وفي فم الأزهار، فتبرق في العتم.
المشهد: فطر أحمر ينفض عنه ندى الصباح. سمكة وردية تستيقظ من النوم وتفتح زعانفها كجناحين. الموسيقى بطعم النعاس. الضوء في الصورة لا يكون قاسياً أبداً، دائماً يمرّ بفلاتر تجعله ناعماً كأنما تحايل للمرور بين أوراق الشجر.
تكوّر في الفراش، كن دافئاً ومرتاحاً ومرحباً بكل الظلال والخيالات، كحبيب شهرزاد، وشاهد هذه السمكة العجيبة ترقص.
بعد قليل يخلع زيوس نعلَيْه ويرميها بلامبالاة تامة فوق رؤوس سكان الأرض، ثم يسحب طرف سحابة ويغطّي جسمه. غطِّ جسمك أنت أيضاً.
"كان يشعر كلوحٍ أسود تنظّفه قطعة قماش ناعمة مبلولة، وتمسح عنه كل الأوساخ والهموم".