مَن هو الدرويش؟
"عيون حمرا عم تبكي، التناقض، غريب، عميل لكائنات الفضا، غريب ما منشوفه، مقاتل، هو الشكّ، منتمي لبرّا الصورة ع حاله بيثور، سجين حبسه، هو بالساحة شغب، ابن طافرة، هو اللي راح بقارب موت، هو اللي بقي وانعدم، صحرا عم يتوحّد بجسم اللي بحبّها، ابن النار، ابن أكتر من ريحة بس نفس التتبيلة، ابن الكبت، ابن شوارع ربي عطشه فيها، ابن شجرة عيلة انشقّ عن فيّها".
ماذا يقول الدرويش للداخلين إلى حمص؟
"أوعى تدوس ع دماغ أو ع طفلة جنب حاجز".
ماذا يقول الدرويش لدمشق اليوم؟
"قومي من الركام، حطّمي جباه الموت، غنِّي شعبك أسطورةً وكوني صوتي لأُغنّي".
كيف يُعرّف الدرويش عن عمله؟
"يللّي عم تسمعه ليس بفنّ، أنا غير معني بمسميات جماد ما بتِسْمَعْني، أنا غير معني بتصنيفي، بس قِلّي بَدَّك توزّع شهادات شرف للثوار كنت بأول مظاهرة قدّمتلك "سي – في" لأن الثورة نتاج الخرا ف منّا عفيفة".
***
ما ورد أعلاه حوارُ متخيّل مع مُغنّي الراب السوري هاني السوّاح المعروف بـ "الدرويش".
حوار استمدّ إجاباته من كلمات أغاني ألبومه الجديد "أرض السمك" الذي أطلقه منتصف الشهر الأول من هذا العام. 13 مقطوعة تمّ إنتاجها وضبطها موسيقيّاً من مازن السيد (الراس)، باستثناء تراك من إنتاج "مقاطعة" و "شو الوضع" للناظر. في الاستماع الأوّل ستجد نفسك وأنت فوق كمّ من غضب هائل. غضب واضح لا لبس فيه، كلمات وأداء وموسيقى...
ليس سهلاً التعرّض لأغاني الألبوم دفعةً واحدة. هذه شحنة انفعالات ومشاعر وأفكار ومواقف سياسية كثيفة، سيغرق داخلها المستمع، ليتواجه مع سلسلة من التجارب الشخصية للدرويش. سرد لتجارب هي حتماً جزءٌ من الحيّز العام وتأكيدٌ على الشكل (الخليط) الذي ينتج من تأثر الفرد بالمواضيع العامة. فيأتي النتاج على شاكلة "أرض السمك".
"الدرويش" هو ابن مدينة حمص، صار بعد الثورة لاجئاً في بيروت، اختارها لقُربها أو اكتشف قربها بعد حين فكان الصمود فيها، وهكذا التقت قصصه مع قصص كثيرة من خطوط النقاشات العريضة: الموت، اللجوء، الثورة، الحنين، الخيانة، البحر الإحباط فالأمل فالإحباط...
مُرهِق الاستماع للألبوم دفعة واحدة، مُرهق وممتع في آن. "أرض السمك" هو إقحام مباشر للمستمع في قلب معارك الكاتب وتقلبّاته النفسية والحسيّة ووجعه وأفكاره ونقاشاته اليوميّة سواء بينه وبين نفسه أو على شكل شجارات مع مثقفين في بارات ومقاهي بيروت، فتشعر بكل هذا التأرجح المُقدّم لك في قالب موسيقيّ يكاد يُضاهي النص إمتاعاً.
"ديك الجنّ" هو التراك الثاني في الألبوم. يستمدّ اسمه من الشاعر العباسي المولود في سوريا الذي أُغرم بورد، جارته النصرانية، فأسلمت على يديه وتزوّجته قبل أن تنتهي القصة بشكلٍ مأساوي بعد أن قتلها غيرةً وحبّاً. وديك الجنّ الذي بدأ مسيرته متردّداً إلى الجوامع، دخل مع الوقت في مراحل من الشكّ والقلق ليصل إلى اتّهام الناس له بالإلحاد. سيرة حياة الشاعر وضعها الدرويش في هذا التراك، عبر تحميله اسمه، كوجه مُشابه مع حمص، بثورتها وخذلانها وموت ناسها وعكوفهم وشكّهم وعلاقتهم بمدينتهم وعلاقتها هي بهم، فيقول "أنا جفر مخبّى بمكة، فيي سفر للتكوين وفيي سفر للدربكة... يا حمص اليقين واضح، فبخبي شكّي جواتك وبخبّيك جوا شكّي". يُكمل: "كل ما يحاولوا يخلعوك من الأرض بحلقها شرّش، لو ما كان الحيط طعمه مالح عربش، نخّخ السما ولا تصالح".
في الألبوم فصلتان. الأولى حميميّة بمقدار عال: تسجيل صوتيّ أنثويّ يحكي بالعفويّة ذاتها التي نتلقّى فيها جميعنا رسائل صوتية على هواتفنا. امرأة تشرح لأخيها، بهدوء وتلقائية، عن أبواب اللجوء السوري إلى ألمانيا واحتمالات قبول طلبه في حال قدّمه هذا العام وخوفها من بقائه في بيروت ومصيره. وفي تأفّفها وتردّدها وصمتها، تستعين بمقولة لأنيس الذي لا نعرفه "وعلى قولة أنيس لازم نتربّى من الفلسطينيي شفنا اللي ضلّوا منهم بالبلدان العربية واللي إجوا لهون". بمكان ما يجد المستمع نفسه وهو يُجيب تلقائياً على رسالة الأخت بأنّ هاني لن يخرج من بيروت. كيف عرفنا؟ "أرض السمك" بمقطوعاته خيرُ جواب.
الفصلة الثانية، وهي التراك العاشر في الألبوم، تحمل شيئاً من الردّ على رسالة الأخت أعلاه، على الرغم من البُعد ترتيباً بينهما. قد يكون الربط غير دقيق، لكن لوهلة سيظهر رابط خفيّ بينهما. في هذه الفصلة يُلقي الدرويش كلماته حاكياً عن الشام والبحر واللجوء. "كأن يغرق الذين باعوا أنفاسهم ليلجوا البحر... ثقبٌ في رأس الحنين، داخل الثقب رأيت الصيادين رأيت المدى مشدوهاً أمام ضيقنا، ورأيتُ الأسماك تُشيّع نفس القتيل مرّتين، تَرْكعُ لربّ خذلها قبل ركعة".
وفجأة ينتهي. يصمت الدرويش ومعه الخلفيّة المُرافقة التي كانت عبارة عن صوت بحر أو فراغ أو شارع بسيارات قليلة. أمّا تشبيه الذاكرة الجمعيّة بذاكرة السمك، لقصرها ونسيانها المتكرر للأحداث والتاريخ، فهو محور أساسيّ في مجموع العمل. التراك الذي حمل اسمه الألبوم "أرض السمك" كان لبّ هذا التشبيه والقصد.
تراك "أرض السمك" الذي قد يوحي بأن بيروت هي المقصودة منه، ينتهي بتكرار لعبارة: "قال السمك بابا حافظ قال السمك ماما فرنسا". عبارة نجح الراس في تقديمها موسيقيّاً على شكل رافعة تضرب مراراً في رأس المستمع، بإيقاع يُحاول التذكير بشيء ما أو إيقاظ لأحد ما. عند سؤال هاني عن القصد خلف مصطلح "أرض السمك" وإن كانت بيروت هي المقصودة، شرح بأنّه لم يقصدها كمدينة بل كمحطة شخصية له هو فيها، وحسب قوله: "أرض السمك هي أرضنا جميعاً. ونحنا السمك لأنّه مننسى، ذاكراتنا قصيرة الأمد، والأحداث بحياتنا بتضل تكرّر حالها... ونحنا السمك اللي عايش عالأرض، برّا بيئته الطبيعية".
يبدو الدرويش في ألبومه هذا وكأنه يُنهي ثأراً، فالغضب الخارج منه ليس عادياً، أو إنّه في نزال مع ذاته ومع كثيرين، يرفع يداً ويُنزل أخرى بسرعة معادلة لتلك التي يُستخدمها في غنائه على المسرح.
"ما كان في داعش لمّا احتلينا الشارع بأسلحة خفيفة، بتصحّيك قذيفة، وبتنيّمك عمامة، الحرس الثوري بالشام عم ياكل قضامة وانا اللي لغتي عنيفة؟".
لا يُمكن الاستفاضة أكثر في شرح كلّ أغنية. لا مساحة تكفي. ولكن هذه نصوص تؤكل نيئة كما هي، لا حاجة لمن يشرحها، تحكي حالها بحالها فتُمتع وتخلق غضباً وتُحزن فتنفض غباراً عن كثير من الأفكار.
ألبوم هاني السواح إصبع مرفوع في وجه الموت. هو من قال "يا أيّها الموت المحدّق فينا كول خرا".
ألبوم هاني السواح واحة من الحنين والحبّ والشوق والذكريات والموت والهجرة والدمار... واحة في صحراء قاحلة واسعة، لا يكاد يراها إلاّ قلّة. واحة لا تنضب. تحضر الشام وحمص وبيروت. هنّ نساء الدرويش، ثمّ يعود ويخصص حبيبته بتراك "روقي". ولكن كلّه مع كلّه، معجون، خليط عجيب من المشاعر والحبّ لمدن ونساء وروائح وأرض... لن يقدر المستمع التمييز بينها إذ تحطّ جميعها مع بعضها البعض. وكأنّه يترك للمستمع حرية أن يُحيي ويُميت ويتخيّل كيفما يحلو له، أينما ساقته الكلمات والموسيقى.