يُفترض بهذه الرسالة أن تبدأ كما لو كانت مراسلة في فيلم خيال علمي: "إن كنت تقرئين هذه الرسالة فمعنى ذلك أنه...". بداية إن كنت تقرئين هذه الرسالة، فمعنى ذلك انك ما زلت على قيد الحياة، وهو أمر طيب ولا شك، بالنظر إلى ما يحدث في هذه الأزمان.
أكتب إليكِ اليوم كرحلة في الزمن وأنت تتذكرين أنه، حيث أنا الآن، فالعالم ليس على ما يرام.
هي الحرب في كل مكان تقريباً، ولا يبدو أن أحداً يفهم ما يجري، ولا كيف يمكن وقف "الآلة الجهنمية".
"الخبراء السياسيون" يُدْلون بتحليلات لا نهاية لها، مثل طواحين هواء تخلط فرضيات لا يستمع إليها أحد، وبالأخص من هم مستعدون للقتل.
آمل أن ذلك لم يعد مطروحاً عليك، وأنك بقيت صامدة في سذاجة اعتقادك بأن الحروب لا تُرْبح، وان كل نصر هو معيب، وأن البكاء على الخسارات أمر لائق.
آمل أن النظرية ما زالت تغرق في نظرك بالمقارنة مع الممارسة، مع الحياة بتفاهتها واستمراريتها السحريّة، وانك ما زلت لا تفهمين هؤلاء الذين يقفون على قدميهم ليدافعوا بحماسة عن واجب الآخرين الانتهاء بساق خشبية. آمل أن تعاطفك وسهولة تخيّلك لنفسك مكان الآخر قد سمحا لك بأن تكبري من دون التغافل عن المادة الأولى لكل نظرية في العالم: الأفراد، الحيوات، الصغيرة، المتفاوتة، والتي تمتلك كل واحدة منها الحق الذي لا يُنتهك بأن تُترك وشأنها.
"الموت لأجل الأفكار، حسناً، ولكنه موت بطيء"، هل ما زلت تستمعين لبراسنز؟
وعلى ذلك، ولأن لا تناقض، فآمل أنك رأيت فلسطين محرّرة، وأن الفلسطينيين من العالم بأسره الذين ضحّوا بكل ذلك القدر من الحيوات، ومن البديهيات، قد نحتوا في التاريخ أنه، كلا، لا يمكن الاستمرار برفقة الظلم بلا حدود، وأن ذلك لا ينتهي به المطاف بأن "يمرّ" ويصبح قانوناً. هل توقّف تدمير العراق؟ هل زرته؟ لو لم تفعلي، فاذهبي، ولا يهمّ إن لم تَعد فيه نخلات، فستجدين هناك وجوهَ غرباءٍ مألوفين.
يبدو مستغربا أن أعطيك نصائح، أنت التي عشت أكثر مني.
وعلى الرغم من ذلك، ولو تسمحين، وطالما انك تملكين خبرة السنين، فاستمعي إلى مَن خبرتها أقل.
لا أدري من أصبحتِ، ولكني أعرف قليلاً من كنتِ.
أنت مثلا كنت تحبين الموسيقى وتبحثين عما هو جديد. أرجوك، لا تصبحي من هؤلاء الذين يندمون على الماضي، ويحطون من قدر الأشياء الجديدة، المختلفة. للموسيقى الالكترونية عباقرتها، فإذاً، على هذه الموسيقى الجديدة التي اخترعوها أن يكون لها مريدوها، وشبابك لم يكن أكثر تميزاً من شباب هؤلاء الذين يسيرون اليوم في الشوارع واثقين من أبدية شبابهم.
ولكن ما هَمَّ إن لم تستقبل أذناك الأشياء غير المعتادة لكِ، لا تنسي بكل الأحوال الاستماع إلى الموسيقى، كل الوقت، وبأعلى صوت في بيتك حين تستيقظين، لأن الموسيقى شيء جدّي للغاية، والخفّة كذلك شيء جدّي للغاية.
كائناً ما كان قرارك بخصوص ما تقومين به في الحياة، فعلام تندمين عليه؟ أذكِّرك بأننا ضحكنا كثيراً، ورأينا أشياء جميلة، وأنك محظوظة جداً.
ما خرب أصلاً كان قد شاخ، وكما في الفن والجمال، وكما لوجهك المجعد، فالجزء لا معنى له، ويجب رؤية اللوحة من بعد.
"هي الحياة هكذا، ستعتادين". تكررين اليوم هذه الجملة كتعويذة سحرية، رهيبة ورائعة في آن، تعيد موضعة الأشياء في إطارها، وتذكّرك أن الحياة هي الآن، وكل الوقت، وأنه، بالتالي، لا يهم. سنموت جميعاً، واحدا تلو الآخر. من أحببت، ومن لا تعرفينهم، وأنت أيضاً. وهذا هو اليقين المطلق الوحيد الذي يتقاسمه الجميع، تعرفين ذلك أصلاً.. قد تكونين حزينة، قد تفتقدين الراحلين، ولكن لا تندهشي من هذا "الظلم"، وتمتعي بكل لحظة طالما ما زلتِ هنا.
من ارتكب هذه المزحة يرغب ولا شك باستنفادنا لهذه الأعجوبة العابرة، لدهشتنا الدائمة حيال الأشياء الصغيرة.
وعلى أية حال، فهل ما زلت تتجوّلين لاكتشاف الأثر المذهل والمؤثر لتفاصيل اليوميات البسيطة؟ إن كان لا، فاخرجي، ستصادفين ربما في الشارع عربة أطفال وقشرة موز أسفل غرافيتي يقول "الحياة جميلة"، أو في الطابق الرابع امرأة على وشك الوضع. يتعيّن على دالي أن يحتشم أمام هذا المتحف الذي لا ينضب ولا يتوقف أبداً عن الافتتان بجماله.
وفي النهاية، ليس الأمر سهلاً، ولا وقت لديّ كي أحدثك أكثر. سأكتفي إذاً بالاحتفال بالسنوات الجديدة طالما هي تأتي، وتقربني منك. سنلتقي من دون شك لنحكي عن هذا، وبأسرع مما أتخيل. وبالانتظار، سلام.