كان الناس يهتمّون بطقوسها ويخافونها وينتظرونها بلهفة. يوارون همومهم وأحزانهم كي يرسلوها للأقارب والأصدقاء البعيدين، يتظاهرون أنّهم بخير وأنّهم على ما يرام رغم ما يجري. كانت الصور تتنفس من المكان والناس، تتسع لبياراتهم وحاراتهم وأحلامهم، يحيطها ظل، يكوّن لها أبعاداً تسكنك بداخلها. صوَر كثيرة تصطف على امتداد البحر، لزعماء السياسة ونجوم ذلك الوقت، حرصاً على تخليد ذكراهم.
وكأنّ الصور أزمنة اخترعناها نحن كخديعة ذكية نوهم بها أنفسنا بأننا أخذنا من اللحظة الهاربة ملمحاً نبقيه زاداً للحاضر. هذا الزاد بقي سلاحاً وقف بوجه محاولات التهويد للهوية والذاكرة، التي يمارسها الاحتلال بشتى الطرق والوسائل على امتداد عمر القضية، لتكون الصور - رغم رماديتها الباهتة - أداة تبعث فينا عطر الماضي وألوانه وترسخ جذوره.
تلك المشاهد كانت حاضرة في فيلم " إلى أبي" للمخرج الفلسطيني عبد السلام شحادة، الذي ولد وعاش في غزة. يقول شحادة، الفائز بجائزة النسر الذهبي، كُبرى جوائز مهرجان روتردام السنوي التاسع بهولندا للأفلام التسجيلية عام 2008، إنّ فيلمه جاء في وقت عصيب مؤلم، حين رفع الفلسطيني السلاح بوجه أخيه الفلسطيني، فلم يجد لنفسه مساحة سوى السينما للدفاع عن النفس واتخاذ موقف وسط فوضى الاقتتال. الفيلم أتاح له إيصال رسالته التي حاول فيها تذكير الأطراف المختلفة بأمجاد الماضي وحياة الأجداد.
تبلغ مدة الفيلم قرابة الخمسين دقيقة، يحكي فيها بلغة شعبية وعفوية، قصة الصورة الفلسطينية ومدى التغيير الكبير الذي طرأ على المجتمع عبر الصور والعلاقة بين الصورة والكاميرا والتغيرات التي طرأت عليها.
ألبومات تجمع العائلة والأصدقاء بمختلف مراحلهم العمرية، تتوالى وتمرّ أمام ناظريك. ملامح مختلفة لأناس وحّدهم "الأبيض والأسود"، عيون سوداء لامعة تتأمل جمالها حيناً، وتضحك لأخرى حيناً آخر، وصور للحاج سلامة أمام مراكز التموين وهو يلتقط للناس صورهم ويُملي عليهم قانونها، تضيف طاقة كبيرة لذاكرة عبدالسلام الطفل مع تلك اللقطات الراسخة بذهنه لأبيه وهو يحفر البئر ويتأنى بصبر للوصول لعين الماء. وكأن تلك الصورتين مثلتا للكاتب خصوبة الحياة، فقام بأرشفتهما بقلبه قبل عقله، لينتجها فيلماً يحمل وصايا تعبق بالحنين. تباغتك الألوان مع اقتراب الحديث عن الحاضر حيث الاحتلال وجرائمه ضد الأطفال العزّل بقطاع غزة، لكي تعبر بنا إلى المعاناة بفصولها الأربعة وتعقيدات الحياة ومرارتها.
صار التغيير ما بين الكاميرا الثابتة وصورتها الفوتوغرافية القديمة بالأبيض والأسود والكاميرا الحديثة وصورتها الملونة اليوم رمزاً لتغيير ما في واقعنا الفلسطيني. هو تغييرٌ جلب الألم والحزن وتعددت أشكاله وعلاقتها بالمراحل المختلفة لحياة المخرج عبد السلام شحادة، وصولاً إلى تحقيق حلمه بالعمل مصوراً ومخرجاً سينمائياً.
في بداية حوارنا استأذن المخرج شحادة لكي يخرج كيساً من التبغ من جيبه ويلف سيجارته، وأثناء هذا كان يتحدث بحنين، عائداً إلى زمن الفيلم. يدخن ثم ينفث الدخان إلى الأعلى، يصمت لبرهة ثم بشيء من حسرة وهدوء يلفظ كلماته "رجل اقتلع من أرضه، حمل بقلبه هموماً كثيرة، أذابته سنوات التشريد والهجرة، كما أرهقت ذاكرته تفاصيل الألم.. كان عليّ أن أعود للصبي الصغير بعد رحيل القدوة، وأكتب وصيتي إلى معلمي الأول أبي، وقدوتي الثاني الحاج سلامة، بعدما أصابتني حالة من الانكسار والشعور بالفقد العميق".
يضيف: "الحنين هو إلى نقاء الماضي وقداسة الإخوة ومشاعرها. الانقسام السياسي انتزع من الأبيض القيمة والطهارة، وملأ الأفق بالألوان والأعلام وصنوف المعاناة، هذا بالإضافة إلى وجعي وإحساسي بمسؤوليتي تجاه المجتمع كسينمائي. كل هذه دوافع وقفت وراء فيلم "إلى أبي". منحتني استقلاليتي القوّة في الخطاب، وكنت شاهد عيان قبل أن أكون راوياً يسردها.. كان لدي قلق على المجتمع الفلسطيني منذ سنوات لما يحدث به حالياً من ضياع وخلاف". ولم يغب العدو عن أعمال المخرج بل كان حاضراً في جميع أفلامه ومنها "الظل"، و"الأيدي الصغيرة" و"قرب الموت".
يؤمن شحادة بأن السينما ما زالت موجود في غزة، لكنها تفتقر للبصمة الصادقة الحيادية، بل أصبحت مع سيادة حالة الانقسام أداة حزبية تتلون بصبغات فئوية موجّهة لفكرٍ معين بعيداً عن الحس الوطني الفلسطيني الصادق، في وقت نحن أحوج ما نكون للخطاب "الوحدوي" والأعمال الوطنية التي ترسخ المبادئ والحقوق بعيدا عن الحزبية. السينما تتعرض للمضياقات المستمرة، كما يرى شحادة، من قبل جهات عديدة لأنّها تكشف الواقع وتعرضه بشكل واضح وحقيقي، بحيث تخشى تلك الأطراف بأن تجذب الأفلام والأعمال الدرامية اهتمام الناس، وتوجّه وعيهم بشكل يتعارض مع مصالح تلك الجهات التي تحرص أن تكون قِبلة لأنظار الشعب واهتمامهم.
يرى المخرج الفلسطيني في الصورة غير الملوّنة عودة إلى تاريخ الأجداد وتوثيقاً طبيعياً له، يحميه من محاولات النسيان. صار الفيلم وطن شحادة الصغير الذي لا يمكن لأحد أن يتلاعب به، وطن تكمن روحه في الأشياء الصغيرة الشخصية، وألبوم صور يشبه ألبوم أي فلسطيني آخر. "غداً سيكون أحلى، ستنتصر فيه القيمة، لدي إيمان قوي بذلك".