كل ما تمثله السينما في حياتي هو شكل بوابتها في شارع الوحدة في غزة، عندما كانت تمرّ سيارة أبي الـ «بيجو» من أمامها. يتوقف قليلاً هناك، لأرى كلمة «CinemaAlNaser» مكتوبة على البوابة بحروف زرقاء كبيرة.
كانت السينما عالماً مجهولاً وغريباً بالنسبة لي ولأخوتي أكثر من عوالم «والت ديزني» وقصص أبطال الحكايات، خاصةً مع حمار بائع الخضار المربوط على بوّابتها وهو يلوك الحشائش وينظر إلينا بقرف. وما إن ينتبه إلينا البائع يصير ينادي على والدي: «تفضل، خوذ شوية باذنجان يا أستاذ.. لسه طازة». لا يخطر للبائع، ولو للحظة واحدة، أنّ السبب الذي دعا والدي للتوقف هنا هو تركنا أنا وأخوتي ننسج الخيالات حول هذا المبنى القديم، فيما يدخن هو سيجارته بهدوء ويُبدي ملاحظاته.
أخبرنا والدي أنّه كان يذهب باستمرار إلى السينما في عمّان، وأنّه مستغرب كيف لهذه البلاد أن لا تحتوي على مكان لطيف يذهب إليه الرجال والنساء والأطفال والكهول في ساعات النهار أو الليل ليشبعوا شغفهم في اكتشاف العالم عن طريق هذه الشاشة المستطيلة. أخبرني أن جدّتي الأميّة التي لا تجيد القراءة والكتابة كانت تذهب معه، فالحصول على تلفزيونات الأبيض والأسود الفخمة في السبعينيات لم يكن متاحاً للجميع. كانت جدّتي تتسلّط عليه إن عرفت أنّه ذاهب للسينما. ورغم أنّه كان يشعر بالحرج منها، خاصةً إذاً كان يرغب بالذهاب مع أصدقائه أو أولاد الحارة، لكنّه كان يشعر بأنّه ينقذ إنساناً غارقاً في زحام الطبيخ وغسل الملابس والأرضيات طوال النهار لكي يحظى بساعتين أو ثلاث من الراحة الجسدية والنفسية في هذا المكان.
أطفأ والدي سيجارته وأشعل أخرى، «تخيّلوا أنّها ظلت تبكي على حال شادية بعد أن افترقت عن عبد الحليم في معبودة الجماهير حتّى بعد عودتنا إلى المنزل. عندما رآها جدكم أراد أن يضربها، وحرمها من الذهاب معي لأكثر من شهر. جدكم لم يحبّ السينما في حياته. رجل وقور يستيقظ وقت الفجر يتوضّأ ويظل يصلي حتى شروق الشمس، ثم يعود ليفطر ويقرأ الجرائد ويصلّح ما استطاع من سقف غرفة العليّا التي كان يرعى فيها أزواج الحمام وزغاليلها، ثم يذهب في المساء ليلعب الطاولة مع صديق عمره أبو محمود في القهوة القريبة. كان مستمعاً جيّداً للإذاعات، لكنّه يكره السينما، يكره العنصر الدخيل الذي بدأ يغزو شوارع عمان في تلك الأوقات. كان يقول إنّه لم يكن في البلد غير سينما البتراء، لكن وبالتدريج بدأت هذه الأماكن تغزو عقولنا قبل شوارعنا. هذا مخطط أميركا، تغييبنا عن الوعي وعن واقعنا العربي وعن ذكرى الأرض! لا مجال.
رغم ذلك لم يكن جدكم يعارض ذهاب أمي معي إلى السينما. كانت تفرحه عودتها سعيدة. أخيراً عادت الضحكة إلى شفاهها. منذ أن خرجنا من فلسطين في العام 1967، وهي كلما جلست وحدها تبكي، تظل تبكي.. بعينيها رأت الجنود يقتلون ابنتها.
جيد أنها استطاعت أن تهرب بالبقية. جدّكم كان يحبّها. صحيح أنّه كره السينما، لكنّه أحبّ حبّها لها. اعتبر أنها تعطيها سبل المعرفة، تعوّضها عن ضعفها في القراءة والكتابة وتجعلها تشعر أنّها تعلم، أنها ليست جاهلة».
يقول أبي تلك الجمل وهو ينظر أمامه في الشارع، ونكون نحن ننظر إليه مشدوهين حتى يُكمل حديثه. يُخبرنا مثلاً أنّ هذه السينما أغلقت قبل أن نصل إلى البلاد، «بعض المشاكل والمناوشات والجهل أدى إلى حرقها كخطوة انتقامية من السلطة. أوك السلطة جاءت لتفرض حقيقة السلم بالقوة. لكنّ ذلك ليس مبرراً لإحراق مثل هذه المباني. يجب أن ننفق المزيد مع العمر حتى نكتشف أنّ هذا المكان، والأمكنة التي تشبهه، تمنحنا نوعاً غالياً من الثقافة لا تنقله الكتب.. النوع الذي يهبه للضعفاء ولعامّة الشعب الذين لم يستطيعوا أن يشاركوا في خضم النهضة والعولمة بشيء. هم يريدون أن يكونوا مؤثرين في أوطانهم ولو بشكلٍ بسيط. هذا المكان كان يعطيهم هذا الحق، ومؤسف أن نعامله بهذه الوضاعة».
عادت نظراته الساهمة في الأفق ثم ضحك فجأة. قال إنّه كان يحب رائحة العطور المختلطة في القاعة الكبيرة، «حريمي، ستاتي، رجالي. الجميع كانوا يأتون بكامل أناقتهم، حتى بيّاعي الفول والفلافل وغزل البنات. هذه فرصة جيدة ليلبسوا أغلى ما يملكونه.
لا أتذكر أن ظهور التلفزيون منحهم هذه الميزة في ارتداء هذه الملابس. لم يكن مهماً وقتها ما الذي يرتدونه وهم يشاهدون هذا الصندوق الذين ينقل الصورة إلى بيوتهم. صدّقوني يا أولاد أمر مؤلم، أنّكم لم تعرفوا هذا المكان. قد تسافرون وتتعرّفون عليه يوماً ما».
وضع المفتاح في السيارة، شغّلها وانطلق. صحيح أنّ السيارة تحرّكت وأخذت أجسادنا معها، لكنّ عقولنا وعيوننا وأحلامنا ظلت ساهمة ومتوقفة في ذلك المكان.