حسناً، لن نبقى مكتوفي الأيدي ننتظر.
حقاً، هل سنبقى ننتظر وزارة الثقافة أن تسعى لافتتاح دار سينما جديدة لنا؟ أم سننتظر أن تنفض الغبار عن دور السينما الموجودة بالأساس؟ أم أنّنا سنظلّ نسرح بخيالاتنا ونتساءل: ماذا لو كان لدينا سينما؟
لكن، ثمّة اجتهادات جماعيّة بهذا الخصوص أفرحتنا على الرّغم من الإمكانيّات البسيطة. في الثّاني عشر من أيار، وبالتزامن مع مهرجان كان، تمدّدت سجّادة حمراء على أرض حيّ الشجاعيّة في غزّة لتشقّ طريقًا بين ركام المنازل التي دمّرتها إسرائيل خلال حرب 2014. امتدّت السجّادة التي بلغ طولها ستّين متراً في مساحة ضيّقة بين الرّكام وصولاً إلى شاشة عرض ركّبت على ما تبقى من بيوتٍ عجّت بالحياة قبل استهدافها.
كان المشهد غريباً ومثيراً لدهشة الحضور من أبناء الحي المنكوب. العائلات وجدت طوقاً للنّجاة ولو لقرابة الساعة من جو الحروب. تجمهر الجميع أمام الشّاشة. انتظار، ضجيج، أسئلة تتبعها أسئلة عن ماهيّة العرض. ثم ظهر عنوان الفيلم الأوّل على الشّاشة «أوتار مقطوعة»، وهو أنتج في غزّة، فطغى الهدوء على المكان، عيون الحضور، الكبار منهم والصّغار، كانت تتّسع وتحدّق. حتّى أنّ الأفواه كانت مفتوحة والآذان مرتخية تستمع بشغف حتّى انتهاء الفيلم الثاني «بيت ترقيع».
أذكر جيداً قول أحد الأطفال عندما وصف العرض لأخي الصّغير الذي لم يستطع الحضور قائلًا له: «شفت السينما اللي بنشوفها بالأفلام المصريّة على التلفزيون؟ همّا بكونوا في مكان مسكّر بس احنا كنّا في الشّارع. يا الله محلاها، فاتك نص عمرك يا حزين». لا نبالغ حين نقول إنّنا جياع متعطشّون لمثل هذه التجارب، أجدادنا كانوا محظوظين بالفعل لكونهم عاصروا وجود السينما في غزّة. في كلّ جلسة عائليّة تأتي خلالها السّيرة لا تنفك جدّتي عن التنهّد والقول: «ساق الله ع أيّام زمان، والله كنّا عايشين وكان عنّا سينما!».
التعطّش إلى السينما الذي يشعر به الجيل الجديد، والقديم حتّى، انطلق على شكل محاولات فرديّة، كانت «السجّادة الحمراء» نموذجاً لها، لتروي الظمأ وتشكّل بداية نحو إعادة افتتاح دور السينما. بحسب مدير المهرجان، المخرج خليل المزيّن: «سيشهد الثّاني عشر من أيار المقبل مهرجاناً جديداً يحمل الاسم نفسه، إلّا أنّه سيُقام على أرض مطار غزّة الدولي (سابقاً). ولن يقتصر الأمر عند هذا الحد، أي أن هناك هدفين أساسيّين من وراء ذلك، أولهما: لفت النظر إلى أنّنا ما نزال نحاول خلق أجواء سينمائيّة بحجم جمهور هائل لا تستوعبه دور العرض، أما الهدف الثاني فهو إيصال رسالة بأنّنا بشر من حقّنا التنقّل والسفر بحريّة وكرامة، بعيداً عن الذل الذي نعانيه في الجانب المصري من معبر رفح البرّي».
يوماً بعد يوم، يزداد يقين الفلسطيني في غزّة بضرورة ممارسة التمارين الجادّة في حضور العروض السينمائيّة، التي كادت أن تتلاشى بفعل الإهمال وتناسي الحاجة إلى ضرورة وجودها من قبل القائمين على القطاع حالياً وخلال الأعوام السّابقة. من هنا تُشكّل «دور العرض البديلة»، جزءاً للتنفّس والنجاة من البؤس الطاغي على المدينة.
مثلًا: لا تتردّد بعض الأسر في الذهاب إلى فعاليّات «ديوان غزّة» الخاصّ بعرض الأفلام، ذي الإمكانيّات البسيطة، والمتمثّلة بشاشة عرض وجهاز حاسوب و «بروجكتور». وما أن يطلق الديوان «الحدث» على صفحته على «فايسبوك» حتى يبدأ المهتمّون بجدولة أعمالهم ليتمكّنوا من مشاهدة العروض.
بعكس المتوقّع، فإن عدد الحضور يزداد في كلّ مرة تعرض فيها الأفلام وهذه إشكاليّة يعانيها القائمين على الفعاليّة، فلا تكفي قاعة العرض غالباً للناس الذين يفوق عددهم المئتين وخمسين شخصاً على الأقل. أما الأفلام المختارة للعرض، فإن أغلبها يكون فلسطينياً، كفيلم «عمر» للمخرج هاني أبو أسعد، إلى جانب مجموعة من الأفلام السويديّة التي وفّرتها السفارة السويديّة، إضافةً إلى عرض مجموعةٍ من الأفلام الفرنسيّة والألمانية.
ولعلّ فعاليّات «ديوان غزّة» هذه، إلى جانب المركز الفرنسي، ومركز «رشاد الشوا»، ومؤسّسة «المسحال للثقافة والفنون»، وجمعيّة «الهلال الأحمر»، تعطي الأمل بإمكانية عودة دور العرض السينمائية من جديد.