صيف 2013
كان الحشد يتدافع مع رجال الأمن، والمشهد يبدو كتسجيل مصوّر يتكرّر، تارة إلى الأمام وتارة إلى الوراء، لتخبّط موجة على الشاطئ. كنت أقف على عارضة باطون بعيدة قليلاً عن مكان الاشتباك، أراقب، وأتساءل كيف يمكن لفرد أن يواجه عنصر أمن مدجّج بالأسلحة، أو يقف في الصفّ الأول في التظاهرات. لم يدُم وقوفي طويلاً، كنت خائفة، وركبتاي ترتجفان من الرعب. عناصر الأمن لم يرحموا أحداً أمامهم، كانوا يضربون بشكل عشوائي، على الرؤوس، وعلى الأرجل والبطون.. لم أفكّر كثيراً، رأيت الناشطين يتعرّضون للضرب ولا يتوقفون، يردون الضربات بأيديهم، يدفعون عناصر الأمن الذين توحشّوا فجأة عليهم، ثم يهتفون. لا يتوقفون. لم يقلّ خوفي من العنف الذي أراه، وركبتاي لم تتوقفا عن الارتجاف، لكنّني هبطت فجأة عن العارضة التي أقف عليها، ومن دون أن أفكّر ركضت نحو الحشد، ولم أتوقف عن الدفع حتى وصلت إلى الصفّ الأول أمام عنصر أمن وصرخت: "عسكر على مين؟!".
لم أتعرّض للضرب فعلاً، فقط للقليل من الضربات الطائشة إثر التدافع، لكنّني خرجت من المعركة يغمرني شعور عارم بالانتصار. كانت مشاعري ساذجة بين المتظاهرين الذين هدؤوا بعد توّقف عنف الأمن. كان الجميع يتحدّثون عمّا حصل، ويتناقشون حوّل الخطوات التالية، وبين مجموعات الأفراد التي تعبت وتريد الرحيل، والآخرين الذين يحاولون تشجيعهم للبقاء، وبين الممتعضين من الاعتصام والذين انضمّوا إلى التحرّك فقط عندما علموا بالعنف المستخدَم. جلست على العارضة الحديدية التي كنت أراقب منها، ولم أتوقف عن الابتسام إلى أن رحلت في اليوم التالي إلى البيت.
لم يدُم حراك "لا للتمديد" طويلاً، أصبت بعدَها بالاكتئاب. تخطيت معضلة مهمة في هذا الحراك، التغلّب على الخوف، لا محوه، بل التغلّب عليه فقط، فهمه، والعيش معه بسلام. لكن الحراك توّقف. كنت جاهزة حينها للاستمرار. للهتاف طويلاً، والتدافع كثيراً، والركض بدون تعب. لكنّه توّقف.
صيف 2015
لم أرد المشاركة في التظاهرة، كنت من الممتعضين من أسلوب التنظيم. بعد ساعة من موعد بدء التحرّك، وصلني خبر أن عناصر الأمن ترش المتظاهرين بالمياه، وتضربهم بالغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاط. بدأ العنف، لا وقت للامتعاض. لمّ يكن قد مرّ أكثر من ربع ساعة على وصولي حتّى بدأت بالركض هرباً من الغاز المسيّل للدموع. نتقدّم نحو الأمن، نصرخ، نرى الغاز، نهرب، نعود، يهجمون، نتقدّم، نهتف، ثم نركض. كنت خائفة طبعاً، ولكنني كنتُ بخير. لم تبدأ ركبتاي بالارتجاف إلى أن سمعت إطلاق الرصاص. أطلق رصاص حيّ. لم يكن الأمر مزحة. كان إياد يسحبني من يدي وراءه ويركض، وأنا عاجزة عن "شدّ رجليّ". أقع ثم يرفعني، أركض، أتعب، يسحبني. كان الخوف ألماً حاداً في معدتي، وشللاً في رجليّ. لكن، هذا لم يوقفني عن الصراخ بوجه رجال أمن اصطدمنا بهم أثناء هروبنا. وقفت وبدأت بالصراخ وإطلاق الشتائم: "عم تقوّصونااااا. عم تقتلوناااا. يا ****.."، ثم وجدت نفسي أركض نحوهم، وأفكر أنّني سأضربهم. لكنّني لم أستطع، سحبني إياد وركضنا بعيداً باتجاه بشارة الخوري.
لولا صيف 2013، لما تصرّفت كما تصرّفت يوم 22 آب 2015. أنا الآن جاهزة للمواجهة. أنا خائفة، لكنني قادرة، إن حالفني الحظ، على دفع رجل أمن عني وإفلات نفسي من بين أيديه والهرب من دون أن يعتقلني.
ماذا حقّق الحراك؟ التظاهر في الشارع لا يفشل أبداً، هناك دائماً إنجازات. والإنجازات الفردية لا تنفصل عن إنجازات الحراك. في حراك 2011، كنت في الثامنة عشرة من عمري، وأضخم إنجازاتي حينها كانت لفت انتباه الشاب الذي يُعجبني. قبل حراك "إسقاط النظام الطائفي" ليس كبعده! خرجت من قوقعتي في ضيعتي، واكتشفت أن العالم لا ينتهي عند دكان سامي وزوجته خيّرية في آخر حيّ "تحت الشير". ولد لديّ وعيّ سياسيّ، تعرّفت على نساء قويّات مستقلّات وتعلّمت كيف أحارب النظام الذكوري، أصبحت لديّ القدرة على قراءة فساد الدولة، والتفريق بين النظام والدولة. بعد حراك 2011، تعلّمت الكتابة.
أوّل مرة نزلت فيها إلى الشارع، كنت في السادسة عشرة من عمري، نزلت فقط لأنني أردت قول "لا" لأمي. لأنّني سئمت خبراتها ونصائحها، التي ورثتها بدورها عن أمها. أوّل "لا" قلتها كانت في وجه أمي. الشارع اليوم علّمني أن أقول "لا" في وجه نظام.
أنا واعية تماماً أن حراكنا الحالي لن يُسقط النظام، على الأقل ليس اليوم. نحن نتدرّب. الشارع هو ساحة تدريبنا، مدرستنا البديلة التي نديرها بأنفسنا. الخطأ مسموح. لا نريد دروساً جاهزة يقدّمها لنا أجدادنا، بل سنخلق قواعدنا الخاصة.