لم يكن السادس عشر من أيلول كأي نهار مدرسي مر قبله، فكان هذا اليوم أول يوم في السنة الدراسية الجديدة؛ بالتزامن مع تحرك المجتمع المدني ضد طاولة الفساد إن صح التعبير. دخلت صفي الجديد غير آبه بموقعه و إتساعه و من بداخله، فكانت عيناي تران الوسخ التجاري في كل ورقة و مع كل إلتفاتة في زوايا المدرسة.كنت جالسا في ذاك الكرسي المتصدع؛ إلا أن عقلي كان أمام مبنى النهار و كأنني كنت سأبدأ برشق البيض و البندروه في وجه شخص أمامي لطالما جاهر فاخرا بإنتمائه إلى أحد أركان السلطة الفاسدة و علاقته الواسعة بقاداتها.
مرت الساعات العصيبة علي ببطء شديد فتلك كانت المرة الأولى التي لم أكن فيها مشاركا أو أقله متابعا للأخبار لحظة بلحظة فنظام المدرسة يفصلنا تماما عن العالم الخارجي حتى قرع الجرس الأخير. انها الثانية و النصف؛ها هو الجرس يصدع في أورقة المدرسة طالبا من التلاميذ إنهاء دوامهم و الذهاب إلى المنزل. كانت تلك اللحظة تعني أيضا عودة تواصلي مع العالم الخارجي فتحرر هاتفي من أسره عند مكتب الناظر.
كشف الهاتف عن قذارة دولة فاقدة للشرعية بكل مؤسساتها فمواقع الشتم الجماعي كانت تصرخ من شدة فظاعة المشهد الذي كان نقطة في بحر الهمجية مقارنة بإصطدامات الثاني و العشرين من أيلول، ليس هناك أقبح من رؤية أفراد لطالما قرأت مقالاتهم ووقفت معهم في مظاهرات يضربون على رؤوسهم من قبل شبيحة السلطة. صحافي، ناشط، طالب جامعي، و آخر ثانوي؛ جميعهم لاقو قسطهم من الهراوات الحاقدة التي تنهال عليهم من عصب الأمن الداخلي. و كيف لنا أن نمحي صورة الرجل المناضل أجود بو حمدان التي عرفته جميع الساحات و التظاهرات و شهدت على نضاله، أجود صاحب الشعر الذهبي الطويل اللامع إستخدمت قوات المشنوق شعره لسحبه و إعتقاله لساعات قبل إطلاق سراحه مع بقية المعتقلين و منهم المضرب عن الطعام وارف سليمان.
لم تخلو اللائحة من مناضلات لبنان، ناشطات الحراك اللواتي ضربن من قبل رجال قوى الأمن، و الملفت كان إستقدام عدد من النساء في قوى الأمن لإلقاء القبض على الناشطات. لربما من أجمل المشاهد في "الثورة" كان المشاركة النسائية الكبيرة التي كسرت رجولية التظاهرات العربية، و ما أفظع من الإعتداء على المتظاهرين و الإعتقالات بالعشرات إلا إلتزام الدولة الممثلة بوزارة الداخلية الحياد عند هجوم مناصري الأحزاب على خيم المضربين عن الطعام تحت ذريعة شتم الزعيم.
المشنوق أعلن شعار قوى الأمن الداخلي "منكم، لكم، للإعتداء عليك".
#غضب_الشارع أعاد للشباب الأمل بلبنان الواعد الذي لطالما سمعوا عنه باﻷساطير، قتل التفكير بالهجرة عند البعض، وشجع المراهقين و الراشدين كافة على النزول الى الشارع. الساحات تنتظر الجميع، و طريق التغيير طويل و هو بدأ من قمامة على الشوارع الا أنه تحول ضد قمامة البرلمان و السراي.
غدا أعود الى المدرسة برأس مرفوع و أمل بالتغيير بشباب نقف معهم على الأرض و الساحات و من داخل صفوفنا. غدا أعود الى المدرسة لأستكمل نقاشات كنت قد بدأتها مع أشبال السلطة، محاولا إقناعهم بترك العقيدة التي لم تقدم لهم و لعائلاتهم سوى الدم و الفساد. فساد ربته الطبقة السياسية بيننا، حتى أصبح جزأ من حياتنا، و التغيير ما هو إلا إنقلاب على الذات. لتكن ثورتنا إنقلابا على أنفسنا كما هي إنقلاب على الهدر، الفساد، والطائفية.