تعرّفنا على الشارع للمرّة الأولى في العام 2005. لم يكن معظمنا قد تجاوز الخامسة عشرة حينها. نزلنا إلى ساحة الشهداء إمّا مع فريق الرابع عشر من آذار أو مع فريق الثامن من آذار. لم يحدّد أي شيء وعينا السياسي حينها إلّا موجة الاغتيالات التي بدأت مع اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وبنينا خياراتنا السياسية انطلاقاً من خيارات المنطقة والأهل والأصدقاء. لعلّنا لم نبن خياراتنا السياسية حتى، بل استغللنا المناسبتين كفرصة للنزول إلى الشارع، والهروب من البقاع إلى بيروت مرة واحدة كل سنة.
منذ يوم السبت 22 آب بدأنا ننزل إلى التظاهرات كل يوم. شاركنا في الاعتصام في رياض الصلح ليلة بعد ليلة. قبل ذلك لم نكن قد اعتدنا الشارع. معرفتنا الأولى والوحيدة به كانت في العام 2005. عندما نزلنا السبت الماضي، والسبت الذي سبقه، واعتصمنا ليلة بعد ليلة في رياض الصلح لم ننتظر الأصدقاء ولا الأهل. أهلنا لم ينزلوا وكأن البقاع معزول عن هذه الأزمة. مثل هذا التفكير نابعٌ باعتقادي من العقود الطويلة التي صوّرت فيها بيروت للبقاعيين على أنّها مصدر حرمانهم وإهمالهم من قبل الدولة، وعلى أنّها لا تعرف الإهمال والحرمان بدورها. اعتبر أهلنا أنّ أزمات بيروت لا تعنيهم، في حين أنّهم كانوا من أوائل المتظاهرين في 14 و8 آذار، بل أشركونا في قراراتهم السياسية تلك. في الحراكات الأخيرة لم ننتظر أحداً. أكثر من ذلك، عمد بعضنا حتى إلى مقاطعة أصدقائه الذين لم يشاركوا، وتجنّبوا الخوض في نقاشاتٍ عقيمة مع أهلهم الذين حاولوا منعهم من النزول إمّا بحجة الخوف عليهم، أو عبر إقناعهم بعدم جدوى المشاركة، "نحن جربنا من قبل، وفشلنا، لا تنجروا إلى المزيد من الخيبات مثلنا".
المشاركة في تظاهرات الرابع عشر من آذار كانت فرصة لنا، أنا وأصدقائي، لـ "تغيير الجو". كانت الطريقة الوحيدة للمشاركة هي أن نقنع أهلنا، نحن البنات، بالنزول وحدنا إلى بيروت. هكذا تعرفنا على العاصمة وعندما أقول العاصمة لا أعني وسط المدينة وساحة الشهداء.
ما الذي تغير؟
لم أشارك في التظاهرات الأولى. لم يعنني الحراك ولا المنظمون. لم تكن الصورة واضحة بعد. مساء السبت 22 آب تغيّر الأمر بالنسبة لي، تعرض بعض الشباب للضرب هو ما استفزني. صار التظاهر في وجه هذا النظام واجباً بالنسبة لي. هذا النظام الذي لم يكتف بالفساد طوال الأعوام التي تلت الحرب الأهلية، بل قرّر أن يمارس العنف بحقّ الناس إذا عملوا من أجل التغيير..
ابتداءً من يوم الأحد 23 آب، صرت أنزل كلّ يوم إلى الساحة. أتبادل الأحاديث مع الشباب هناك. أتمشى في رياض الصلح أكثر من ساعتين. أعيش الترقّب والحذر خلال وجودي هناك، ولكن لا أتوقف عن المشاركة. فكّرت بأنّنا للمرة الأولى نحسّ بكوننا جزءاً من مجموعة كبيرة "مختلفة" و "متشابهة". لا تجمعنا خلفيات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية مشتركة، لكن يجمعنا، للمرة الأولى، عداؤنا لهذه السلطة بكل أطيافها.
كنا نفتش في الساحة عمّا يرمّم الخيبة داخلنا. الخيبة التي نشعر بها تجاه أنفسنا نحن الشباب، وخاصة عندما نتابع الشباب في تونس ومصر وسوريا. بغض النظر عن نجاح ثورات الآخرين من عدمه، أردنا جميعاً أن نكون جزءاً من تحركات شبيهة. نحن المنغلقين على ذاتنا حتى في نظرتنا للتحركات كلها كنا بحاجة إلى شيء ما يعنينا جميعا ويحركنا، وهذا ما وجدناه في الحراك الأخير. قد تكون مبالغة إن قلنا إن هذا الحراك تحديداً سوف يصل بنا إلى وعيٍ سياسيٍ يقودنا إلى التبرؤ من الطبقة السياسية والأحزاب كلها، لكنّه على الأقل خلق حالةً تجمعنا نحن المختلفين أصلاً.
ما الذي نريده الآن؟
لا نعرف. في الوقت الراهن، على الأقل، نعرف أنّنا جربنا وسنجرّب، وسينضم الكثيرون إلينا لاحقاً. نعرف أنّنا لم نقف مكتوفي الأيدي بعدما سرقوا منا الحماسة والدهشة والحق في المحاسبة والشعور بالمسؤولية تجاه أنفسنا وأهلنا وبلدنا. قد لا تكون هذه، لكنها بالتأكيد حراك من أجل استعادة ثقتنا بأنفسنا. حراك من أجل أن نستعيد الدهشة.