دفاعاً عن النقد الهدّام..
 
هذا مقال جاد عن المسخرة. لكن ها قد بدأت السخرية والمقال لم يبدأ بعد. وهو ليس أمراً سيئاً بالضرورة. ربما يكون الحديث عن شيء ما في أبلغِ حالاته إذا تم باستخدام الشيءِ ذاته. واقع الأمر أنه لا توجد طريقة للحديث عن السخرية أكثر جدية من استخدام السخرية نفسها. في منظومة دول الموز العربية، تُدرك الدولة أن الفكاهة أكثر خطورة بكثير من أن تؤخذ على محمل الفكاهة، فتتعامل معها كما تتعامل مع قضايا حيازة المفرقعات والتجمهر غير المشروع، وقد يجتمع سارد نكتة تمس هيبة الدولة مع مؤسس حزب غير مشروع في زنزانة واحدة وقد ينظر بقضيتهم القاضي نفسه ويُرافع عنهما المحامي نفسه. ليس هذا وحسب، فحتى في أقدم كتب التاريخ وأكثرها جديةً على الإطلاق، الكتاب الذي أملاه الله ـ شخصياً ـ عبر ملاكٍ مجنّح على السلالة البشرية، فإن السخرية حاضرة كتقنية ربّانية في مخاطبة البشر. إن آيات من قبيل «قل تمتّع بكفرك قليلاً» و «بشّر المنافقين أن لهم عذاباً» دليل على أن السخرية أهم بكثير مما يحب متصنّعو الجدية الادّعاء، وإن غُلالة الخفّة التي تتستر السخرية بها ليست أكثر من غُلالة. وإذا كان لي أن أسرق عمامة المُفتي لدقيقة واحدة، فإن الأمثلة السابقة تؤهلني لتكفير منتقدي السخرية بوصفهم متطاولين على تقنية سردية ارتضاها الله لنفسه وهو يكتب.
هل أنا جادٌّ في ما أقول؟ الواقع أنني لا أعرف. إن الغموض الذي يكتنف نصاً ساخراً لجهة كونه جاداً أم ساخراً، وأين تكمن الجدية فيه وأين تكمن السخرية هو في جوهر ترسانة السخرية. إن السخرية تسليحٌ للفعل النقدي، لأنها لا تكتفي بإظهار ضعف الأفكار أو تناقض العقائد أو بؤس الأشياء، وإنما تلصق أسفلها عبوة فكاهةٍ ناسفة. لِمن يأخذون أنفسهم على محمل الجد، فليس هناك جريمةٌ أعنف من ذلك. إن الأشياء قد تنجو من وصفها بالشر أو الإجرام أو الفشل، لكن التصاق سمة الفكاهة بها يقضي عليها قضاءً مُبرماً. السخرية بحق هي أداةٌ للفكر الهدّام، وليس غريباً أن الأصل اليوناني لكلمة (ساركازم) يعني نهش اللحم. لقد استرخى الفكر العام للناس على تجريم النقد الهدّام، لا لشيء إلا لأنه، في الواقع، بالغ الفعالية ولأنه لا يستهدف إصلاح الأشياء، وإنما إسقاطها لفتح الطريق أمام غيرها.
إن الساخر الحق هو من يدرك ميوعة فكرة الحقيقة ويعرف أنّه ما من شيء في هذا العالم ليس منقوعاً بالتناقضات ومجبولاً بطينتها. ورغم ذلك، فإن السخرية البارعة ليست عبثية بالكامل. في مواجهة الثبات والاستقرار والتخشّب، فإن الملل يتحول لدافعٍ كامنٍ للتغيير؛ وإن مؤامرة السخرية ـ التي يحيكها الساخرون في الخفاء ـ هي استغلال هذا الملل المتراكم وفتحُ منفذٍ ضاحكٍ له. حينها فقط، تبدأ الهيبة والقداسة بالتداعي، ويبدأ ملل الناس بأخذ أشكالٍ أكثر فعالية. هذه كيمياء السخرية التي تجعل حيازتها جرماً موصوفاً لمن يخافون على ثبات المشهد واستمرار الحاضر.
إن فضح المفارقات الخفية هو من أعمدة الكتابة الساخرة، وهذا يجعل المنطقة العربية مكاناً معقداً للغاية. إنّ المفارقات في هذه المنطقة البائسة هي الأوفر جغرافياً وتاريخياً، وهي تحيط بك أينما نظرت. أنظمة جعلت الحرية والاشتراكيّة عنوانها عقوداً، ثم في ساعة الحقيقة، اغتصبت أخت الاثنتين، وكيانات رعوية لم تكتشف بعد فكرة «المواطن» لكنّها تموّل حركات تحرّر وانعتاق من الاستبداد. في بلادنا، تبدو مائدة الفكاهة عامرةً بالمساخر. لكن، وهنا تكمن مفارقة المفارقة، إنّ فيضان المفارقات وعلنيّتها يُضعف أثر السخرية منها. لقد أصبحت فداحة المفارقة التي تحيط بنا أعتى من أي مخيّلة، وصارت نشرة أنباءٍ عابرة نصاً ماغوطياً ساخراً بامتياز، لكن بفارقٍ واحد ربما، وهو أنّ السخرية هنا لم تعد مضحكةً للغاية.
عودة إلى الملف