في بدايات التحاقي بالدراسة الجامعية منذ حوالي تسع سنوات، تعرَّفت على زميل لي في الكلية اسمه محمد، وأصبح فيما بعد صديقاً مُقرّباً لي خاصة وأننا كنا ندرس في القاهرة، ونحن بالأساس نقيم في مدينة تبعد حوالي مئتي كيلومتر عنها، وبحكم الجغرافيا كانت قريته قريبةً من البلدة التي أعيش فيها أنا وأهلي.
أما أصدقاء الطفولة، الذين يعيشون في بلدتي الصغيرة في إحدى محافظات مصر الشمالية، فكانوا يتعاملون مع الحشيش باعتباره أمراً روتينياً، وفعلاً حياتياً يشبه الأكل والشراب. كنت أنا أتعامل مع سلوكهم ذاك بنوع من اللامبالاة، حتى جاءت ليلة أحد أعياد عيد الفطر المبارك، ومن عادة المصريين أن يودعوا شهر رمضان، بليلة يتم فيها تدخين الحشيش، ابتهاجًا بقدوم العيد. تجرأت تلك اللّيلة وطلبت أن أقاسمهم ليلتهم تلك، وبالفعل دخّنت الحشيش لأوّل مرّة.
كان النفس الأول هذا، بمثابة بداية تأريخٍ لمرحلة جديدة من المتعة، بمجرد أن يستقر الحشيش داخل قفصك الصدري، تشعر أن ثمة شيء مبهج يدعوا للسخرية، تضحك دون سبب معروف، وترى أصدقائك في وجوه غيرهم، أحدهم له وجه حمار، والآخر تشعر وهو يحدثك بأن له صوت بقرة. يومها أصرّ "أصدقاء السوء" أن أكل قطعة من الحلويات، والتي عرفت لاحقاً أنّها تساهم في زيادة تأثير الحشيش بشكل أفضل. تناولت كمية حلويات كبيرة، حتى شعرت أنّني سعيد للغاية ومبتهج دون سبب، وبدأت أرى أصدقائي جزء لا يتجزأ من عالم الحيوانات.
زميلي الجامعيّ !
في إحدى المرّات، دار نقاش بيني وبين زميلي الجامعيّ، الذي بالكاد كنت أعرفه من خلال الجامعة. بادر هو إلى سؤالي:
- شربت حشيش قبل كده؟
- مرّة، بس عادي يعني، مش إدمان، وأصحابي ما شاء الله عليهم، مفيش ليلة بتعدي غير لما يشربوا.
- لا أكيد مش قدي.
- فعلًا؟
- أنا يا بني معلّم في شُرب الحشيش، وهما تلاميييييذ.
- خلاص يا عم، الأجازة الجاية دي هستناك، وأهو تتعرف عليهم برضة!
- موافق!
بالفعل، جاء صديقي إلى بيتي، وهو منتشٍ للغاية، مزهواً بنفسه بشكل مفتعل، وبمجرد أن جلس، أصرّ أبي أن يتناول الطعام، وبعد إصرار، تناول وجبة دسمة للغاية، وهذه هي كانت أول أخطائه، لأن الحشيش يتناسب عكسياً مع الأكل الدسم قبل تدخينه مباشرة. وبعد أن انتهى من تناول الغداء، دخل أصدقاء السوء، ومعهم قطعة من الحشيش، تكفي عشرين شخصاً على الأقل، فيما كان عددهم خمسة أفراد فقط. ذهبنا جميعاً إلى الغرفة المخصصة للحشيش، وهي غرفة بعيدة كلّ البعد عن أنف أبي وعين أمي.
"المِسا" الدائر!
بدؤوا بتناول قطعة من الحشيش تسمى "تونايا"، وهي تكفي لأربعة أفراد. كنت أنا مصمّماً أن ألا أشرب، كي أستطيع قراءة الموقف عن قرب وأنا في كامل قواي العقلية، أما "المِسا" في لغة الحشيش فتعني واجب لا يُرد، أي عندما يقوم أحدهم بإعطاء دوره في الحشيش لأحد آخر يسميه "مِسا"، وهكذا كان زميلي الجديد محمد الذي كان بالكاد يتعرف على أصدقائي القدامى، هو نقطة التقاء كل "المِسا" في تلك الليلة، حتّى أنه تناول كمية حشيش تكفي أربعة أفراد في أقل من عشر دقائق.
هنا بدأت الكارثة، بدأ يشعر بدوار، حتّى أنّه نام على الأرض، سقط منّا مرّة واحدة، وشعرنا جميعاً أنّه مات. في هذه اللحظة كان أصدقائي يبدؤون بتناول ما تبقّى من الحشيش. بدأت أنا بمحاولة إيقاظه لكن من دون جدوى، فطلبت مساعدة أصدقاء السوء، فما كان منهم إلا أن بدؤوا بضحك متواصل بلا انقطاع، قبل أن ينصحني أحدهم أنّني أحضر قطعة "جبنة قديمة" كي أعطيها لزميلي النائم الميّت، باعتبار أنها تضيّع مفعول الحشيش.
بمجرّد أن ذهبت لأحضر له كوباً من الماء، بعد أن وضعت له قطعة الجبنة القديمة إلى جواره وعدت، حتّى وجدتها مأكولة. حصل هذا لثلاث مرّات متتالية. كان أصدقاء السوء يأكلون الجبنة بشراهة شديدة، ثم يكملون تدخين الحشيش. لم أتمكّن سوى في النهاية من اقتناص قطعةٍ صغيرةٍ من الجبنة، بالكاد جعلت زميلي يستيقظ، ليقول كلمة واحدة فقط لمَن يضحكون عليه: "حرام عليكم".
ثمّ سقط مرة أخرى، وارتجت جمجمته من تلك السقطة. تيّقنت أنّه مات، ودعوت الله في هذه اللحظة أن ينقذني من هذه المصيبة، على ألّا أعود مرة أخرى إلى تدخين الحشيش. وبالفعل، وبعد قلق طويل، استفاق زميلي، وأعلن أنّه كان يخدعني حين قال بأنّه يدخّن الحشيش، وأقسم أنّه لن يعود بعد هذه الليلة إلى تدخين الحشيش.
أما أنا، فمنذ ذلك اليوم، حرّمت على نفسي تدخين الحشيش، وحرّمت على أصدقائي أن يدخّنوه في حضوري، أما زميلي محمد، فكنت كلّما رأيته ذكّرته بهذا الموقف. أضحك فينهرني بشدّة، وكلما حاولت أن أهدّده، أقول له كلمة السر: "الحشيش" !