بيروت التي لا تشبع حروبًا. تظلّ رائحة البارود طازجةً في أزقّتها وهوائها. بيروت مدينةٌ صالحةٌ للخوف والموت، وللحظات فرحٍ مسروقة. لا تندم على ما اقترفته هذه المدينة. عائمةٌ فوق بحر مآسيها. واقفةٌ على سلاحها، منذ ثلاثين سنة، منذ أربعين سنة، لا فرق. الحدقات المتحجّرة تختبئ خلف المناظير، تتحيّن الفرصة المناسبة. بيروت مدينة الأب الواقف في الطابور الطويل، يشتري خبزًا لبيته على عجل، ويعود قبل أن ينهي القنّاص استراحته خلف النوافذ البعيدة. ومدينة الأب الذي أفسدته الحرب، فوقف على حاجزٍ معتم، بانتظار فريسته القادمة. كأنّه يسوّي ثأراً مع العالم. بيروت تتّسع لهما، ولتناقضاتهما. لخوف الأوّل ولوحشيّة الثاني، بيروت لهما، ولي أنا، ابن تبايناتها وفوضاها. هي اتّسعت للضحيّة ولجلّادها في السابق، ولن تضيق اليوم بهما في معاركها الصغيرة.
لا عودة عن القتال في هذه المدينة. في سنواتها الأخيرة، طفح الألم في جسدها الذاوي، فاض عن حاجة الجميع. تغيّرت بيروت في يومٍ واحدٍ ولم أعرفها. اختفت الشوارع والمنازل، اختفى ناسها العاديّون، وخرجت الوجوه القديمة إلى العلن دفعةً واحدة. كأنّ حافلةً خرافيّةً أفرغتهم في شوارع المدينة. خرجوا كأنّ وقتًا لم يمرّ، وكأنّ بيروت التي خلّفتها ورائي لم يبتلعها التاريخ، وما زالت تجدّد نفسَها بنفسِها. المسلّحون يتشابهون في كلّ زمن. أعرفهم جيّداً. من عيونهم أعرفهم. يكفي أن أحدّق في البياض الذي يلفّ حدقاتهم حتّى أعرف عدد ضحاياهم. نظرات الضحيّة تتكدّس في عيون قاتلها فتزيدها شحوبًا. أبي واحدٌ منهم، أبي قاتلٌ وضحيّة، وأنا أحفظ عينيّ أبي جيّداً. أعرف وجهه بعد كلّ مجزرة. أنا ابن الحرب التي التهمت المدينة، لذا لا تعنيني حروبها العابرة.
قبل ستّ سنواتٍ وقعت بيروت فوق رؤوس ساكنيها. يسمّونها أحداث أيّار، وأسمّيها تمرينًا جديدًا على القسوة. خاف الجميع، رأيت الهلع يتكوّر في العيون التي استوقفتها الحواجز المرتجلة للمسلّحين. رأيت الشاب الذي أنزلوه من السيّارة وقاموا بركله، لعبوا به قليلاً ورموه جانباً، وعادوا يجرجرون ضحكاتهم. رأيت العجوز الذي اختبأ خلف عائقٍ حجريٍّ كبير، احتماءً من الرصاص. سمعته يلعن الحرب والبلاد، ثم يغادر باكياً. رأيتُ ذلك بدمٍ بارد، وقلبٍ لا يرتجف. أنا مارون، الذي مات قلبه في حروبٍ سابقة. ماذا تتوقّعون من صبيٍّ نجا من الموت، لأنّه لاذ بحضن أمّه التي تلقّت الرصاص عنه، ليكبر لاحقاً في بيت قاتلها؟ أنا مارون، الصبيّ العالق بين حروبٍ كثيرة، لم تنجح بعد في أخذ روحه، لكنّها أنتجت مئة مارون سواه. وأوجدت مئات القصص التي تشبهه في هذا الزمان.
أنا مارون، ولا يهمّ أيّ يومٍ هذا، نحن نجهل الزمان. لأنّ المشهد بلا تاريخ صلاحيّة:
صوت المذيعة في التلفاز لا يتغيّر. اسمعها جيّداً، هي الآن تحصي عدد القتلى، تقول أسماءهم، وصوتها على حاله لا يتغيّر. وحدي فوق هذه الشرفة المطلّة على احتمالات موتٍ كثيرة. الجميع نزلوا إلى الملاجئ. يسمّونها هكذا، لكنّها ليست سوى طبقاتٍ سفليّة تخفّف أصوات المعارك. أنا لا أكترث لهم، أجلس على الشرفة في الضوء الشحيح لأنّني أكره العتمة. صرفتُ طفولتي في أقبية رطبة، ويمكنني القول بلا تردّدٍ إنّ الموت أهون من العتمة. أجلس وحدي، أراقب المدينة، وأفكّر: «أنا أيضاً مثل هذه المذيعة، لا أبالي بشيء. أنا مثلها تماماً، أحتفل بالنجاة بعد كلّ جولةٍ للقتال. وأحلم، قبل الموت، باعترافٍ أخير».
عودة إلى الحياة المجهولة لشخصيّات تحرّرت من كتّابها