في ذلك اليوم من تشرين الأول 2008، بدت كليّات جامعة تشرين في اللاذقية منشورة كغيوم واطئة تحت سماء زرقاء، والهواء المشبع برطوبة بَحرية يتجول في مساحة الجامعة التي تعادل مساحة قريتي. بعد أن تهت في زيارتي الأولى حتّى وجدت كلية العلوم، تهت في ذلك اليوم داخلها. دخلت إلى إدارة القسم حيث مكاتب الأساتذة، والمكاتب الإدارية، وقاعات أخرى لم أعرف استخداماتها، رغم عبوري أمامها طوال أربع سنوات. كان عندي محاضرة، وتحت اسم المادة في البرنامج كان هناك رمز، ولأنّني لم أعرف معناه، وكان هو اسم المدرج، دخلت إلى الجناح الإداري المثبت على بابه اسم تخصصي. عبر بجانبي شاب مسرع. كان مثلي تائهاً. أتذكره جيدا يومها، مع أنّنا قليلاً ما تحدّثنا لاحقاً: عيناه تطلّان من شقين دقيقين يبرزان عالمه الداخلي، شعره مجعد يصنع مئات الخواتم الصغيرة. ظل يلبس بنطلون جينز وقميص أبيض رقيق إلى أن جاء البرد. عندها صار يلبس فوق قميصه سترة جلدية سوداء.
اكتشفنا أنّ هناك مدرجات وقاعات خاصة لإعطاء المحاضرات، والنوم، واستخدام برامج الدردشة تحت المقاعد أو فوقها، حسب جودة نظر الأساتذة. هذا إن كانوا ينظرون أصلا إلى الطلاب عندما يشرعون بالكلام لساعتين متواصلتين.
بعد المحاضرة تعارفنا أكثر، وإذ بنا نكتشف، أنا وزميل اليوم، أنّنا كنا "أعداء" الأمس. ففي مباراة كرة القدم جرت قبل أشهر على ملعب قريتي، اختلف الفريقان واصطدما ببعضهما البعض، واشتغل اللكم والرفس. "قد تكون ضربتني، أو قد أكون ضربتك"، قلنا ضاحكين.
صارت تلك الأيام بعيدة جدا مقارنة باليوم. تغيرت سوريا كثيراً، وتغيرت أحوالها. في الجامعة كنا نتمنى أن ننهي الدراسة ونتخرّج، والآن نتحسر على أيام كنا فيها طلاباً، خالي البال من تدبير عمل، ولو كان خطيراً.
في سنتي الجامعية الأخيرة علمت أن زميلي الذي خلفته ورائي، لأنه احتاج إلى عامين لإنهاء كل سنة دراسية، أوقف دراسته المتعثرة والتحق بأحد التنظيمات المسلحة الرديفة للجيش. لا أعرف كيف حَسَبها. هو لم يكن مغالياً في موالاته، بل أستطيع أن أقول أنّه لم يكن موالياً إلا للجيش الذي يقاتل الإرهابيين القادمين من كل أنحاء العالم. ما أعرفه أن أجره الشهري يوازي أجر الأستاذ الجامعي، وأنه أصيب في العام الماضي بشظايا في بطنه، ثم عاد للقتال.
أنا تخرجت قبل عام، وأبحث عن عمل بأجر مناسب في مجال دراستي أو خارجه، داخل سوريا أو خارجها. بأجر مناسب، لأنني تخرّجت بالمرتبة الأولى، وسنحت لي فرصة للعمل في الجامعة، لكنني رفضت. لأنّني لو قبلت لكان علي أن أعطي صاحب الغرفة، التي كنت سأستأجرها أثناء دراستي، البطاقة التي أقبض راتبي بموجبها، وفوقها بضعة آلاف ليرة كل شهر.