أبي الذي كان على حق
 
إذا أردت شيئاً فإن العالم كلّه سيمنحك إياه. عليك فقط أن تلتقط الإشارات. تلك الإشارات التي زرعها كويللو في كتبه لم تساعدني بشيء. كان عليّ أن أعرف ذلك منذ البداية. السماء لا تريدني هناك. في المرة الأولى اندلعت حرب تموز وانفصلنا كعائلة إلى شطرين، تحلّق بينهما طائرات بصواريخ ذكيّة. وفي المرة الثانية خرجنا أنا وأبي على متن شاحنة سحبت السيارة التي تعطلت فجأة دون سابق إنذار.
لم تكفني تلك الإشارات. ربما كان على نيزك أن يرتطم بكليّة الإعلام ويمحوها من الوجود حتى أمتنع عن الغرق في مغطس الحلقة المفرغة لثلاث سنوات، وأمنح أبي شهادة في حسن النصح وتقويم الأبناء.
الصحافة لا تدرّس، الصحافة حرفة، صنعة لا تحتاج إلى جامعات.
كنت الفتاة الآتية من قرية صغيرة. تلتزم بصوت الآذان كمنبّه للزوم العودة إلى المنزل. قادها إلى هناك حبّ لأقلام رصاص وبضعة نصوص تتحدث عن الخوف وإعجاب سرّي بمحمد سعيد الصحاف.
أحلام اليقظة المبنيّة على حلقات مثقفين وقراءات في الكتب وحماس لتبادل آراء وارتقاء بالمستوى، كانت محض هراء. لا شيء. خواء بالمعنى الأدق للكلمة. جماعات ملتفة حول بعضها ترى في الغريب آفة. جماعات يربطها الميل السياسي وإن خرجت عنه تصير ضحية منبوذة.
الصحافة الحقيقية تكشف لك عن وجهها البشع. مواد من زمن السبعينات، وطلاب يحلمون بساعات أكثر تقضى في الملعب، ومبنى مستأجر يحاول أن يقنعك بكامل قواه بأنه يعود لكلية تخرّج جهابذة الإعلام الحديث.
غرفة المطبوعات كمقرّ للعمليات التي تستهدف إحباط أي احتمال لقلب اليد المسيطرة. كلية الإعلام التي كان يغيب عن مجرى أيامها أي مطبوعة أو منشور أو برنامج يصدر باسمها. صحافيو المستقبل الحالمون بشهرة سريعة على أثر تلقيهم إفادة نجاح، أو أولئك الذين يرون أنهم أضحوا أمراء الرأي العام.
في الجامعة عرفت أنّي "مناطقية" إلى حدّ عجيب. التزم حدود منطقتي دون أن أزعج الآخرين. أحمل في عقلي صورا منمطة تكاد لا تتزحزح عن السيطرة على أفكاري المسبقة. عن "جلافة" أهل البقاع، والخوف من المسيحيين، والحذر من الدروز. هكذا أحيط نفسي بدائرة من الأشخاص الذين يشبهونني. نتنشق معاً نفس الهواء دون الحاجة إلى تفسير مكوناته.
بعد ثلاث سنوات قضيتها هناك، اكتشفت أن أسوأ خيار يمكن أن يدرسه الإنسان هو الشيء الذي يمكن لأي شخص في العالم امتهانه دون الحاجة إلى مجهود. يكفي أن تمنح فرصة في وسيلة إعلامية وستصل. لا يحتاج الأمر إلى تضييع ثلاث سنوات من العمر لتتخرج بشهادة صحافي.