سمعت كثيراً عن سفر المرء بمفرده، وكنت متحمّسة إزاء فكرة السفر بمفردي إلى بلدٍ لا أعرف فيه أحداً. وصلت إلى برلين في ظهر يوم خريفي. أغراني الطقس الغائم بقضاء النهار الأول لي في المدينة وحيدة. بعد أن انتهيت من استكشاف المدينة، أردت تذوّق طعامها المحلي. وفي نزهةٍ في إحدى ضواحي برلين، فتشت علّني أجد إشارة لمطعم ألماني، لكنّني وجدت بدلاً من ذلك الشاورما (أو الكباب بحسب التسمية التركية)، الفلافل، البيتزا، والأكل الشرق آسيوي. كان هذا أول الملامح الكوزموبوليتانية للمدينة المتعددة الثقافات، فيما كانت أيامي الثمانية التالية برهاناً على ما اختبرته في اليوم الأول. ففي المدينة التي تحتوي على جالية تركية ضخمة، تحضر الشيشة في أماكن خاصةٍ بها تسمى "Shisha Place"، كما أنّها تستهلك مع المشروبات الكحولية في البارات والنوادي الليلية. موضة لم تصل بعد إلى البلاد التي صدّرت النرجيلة.
أما الدليلان السياحيان اللذان قادانا في جولة في برلين، فهما ضليعان في تاريخ البلد. يعرفان بالتحديد أين دخنت ايفا براون، عشيقة هتلر، سيجارتها الأخيرة، وأين وضع السوفييت مدفعياتهم لضرب النار. الدليلان اللذان يعرفان المدينة أكثر من أيّ برليني، كانا إيطاليا ورومانيا.
برلين: جنة اللاجئين
زرت في برلين ما يسمى "بيت لاجئين". وهو مكانٌ يجمع عائلات من جنسيات مصرية، سورية، بلقانية وإيرانية، إلى جانب عددٍ آخر من الجنسيات. سامر، لاجئ سوري يعيش مع زوجته وأولاده الأربعة في هذا البيت الذي لا يشبه في شيءٍ مخيمات اللاجئين في لبنان. ولهذا السبب بالتحديد، تنقّل سامر مع عائلته بين ثلاثة بلدان، هي لبنان، مصر وإيطاليا، هرباً من الحرب الدائرة في سوريا قبل أن يصل أخيراً إلى ألمانيا. ومع أن العائلة وصلت بطريقةٍ غير شرعية، إلّا أنها مُنحت غرفة في بيت ومصروف شهري للوالدين والأطفال الأربعة. لكن سامر يعيش الآن في قلق دائم من احتمال ترحيله من البلد. "أنا هنا منذ سنتين. وصلت عن طريق إيطاليا التي دخلت إليها عبر البحر، أي بطريقة غير شرعية. وككثير من اللاجئين أتيت إلى ألمانيا لأنّني أعرف أن الحياة هنا أفضل. لكن القوانين تنص على أن الدولة الأوروبية الأولى التي تطأها قدمي هي المسؤولة عني، لكنّني سأقاوم لأبقى هنا، لأنّ إعادتي إلى إيطاليا هي أسوأ كابوس بالنسبة لي. الرجوع إلى إيطاليا يعني النوم في الطرقات، يعني الذل. أما هنا، فأولادي يرتادون المدرسة ويتحدثون الألمانية بطلاقة. كلّ ما أرغب به هو أن يتم قبول طلب لجوئي".
الالتقاء بإسرائيليين للمرة الأولى
في بلاد الاغتراب، لا مفرّ من الالتقاء بالعدو. هذه هي التجربة الثقافية الأكثر تعقيداً. ففي بلدٍ كألمانيا، عانى ما عاناه مع معاداة للسامية، وما زال يدفع ثمن ذلك حتّى الآن كمساعدات للكيان الصهيوني، من غير المحبذ إظهار أي عدائية تجاه الإسرائيليين. إن جمعتك مناسبة بإسرائيلي، أسرع الآخرون لإعلامكما بذلك. "آه أنت من لبنان؟ حسنا، هو من إسرائيل"، يقولون مع بسمة انتصار تعلو وجوههم لظنّهم بأنهم نجحوا في استفزازكما. لكن اللقاءات مع العدو ليست كلها متشابهة، فمنهم من يتجنبك، ومنهم من يحاول إظهار تسامح ورغبة للتعايش معك بسلام، لتبدو أنت بمظهر صانع حرب، وهم بمظهر صنّاع سلام، وتكون الخلاصة حديثاً من قبيل:
"دعونا ندخن سوياً، دعونا ننسى خلافاتنا. بالحشيش نقضي على الحرب. تباً للحرب، تباً للحكومة. نعم للحشيش، نعم للسلام".
"وماذا تعملان؟"
"نحن نخدم في جيش الدفاع الإسرائيلي!"
(برلين)