لا مطر في صباح قريب
 
استيقظتْ على صوت ارتطام قوي. أضاءت المصباح لترى أن كلّ شيء في مكانه. التفتت إلى الحائط خلفها، فوجدت جميع الصور عدا واحدة. كانت الصورة لطفل بملامح عربية تغطّي الشمس نصف وجهه. التقطتها وعادت لتنام. استيقظت مجدداً عند الثامنة ليقطع تأملها للسقف رنين الهاتف.
- كنت بعرف رح تدق.
- كيف يعني بتعرفي؟
- بحسّني قلبي.
- كيف يعني بحسّك قلبك؟!
- (تضحك)
- فيقتك؟
- لأ، كنت فايقة.
- أنا تحت البيت، تنزلي؟
- لوين؟
- محل ما بدك.
لم تعد تأتي صباحات كهذه. هي قرّرت ذلك. حين تشعر بالسأم كانت تلجأ للسينما، لكن لم تعد هناك أفلام تغريها. تفكّر أن الحائط خلف مكتبها في العمل يحتاج للصور. رغم أنها تنظر إلى الشارع بازدحامه وخلوّه، فهي تفكر في الحائط. لعلّ الصورة التي هبطت عن حائطها تدعوها لأخذها إلى هناك.
في المبنى الشاهق المواجه لمكان عملها، ترى ثلاثة عمالٍ تسلّقوه، ينزلونه نافذة بعد أخرى لتنظيفه. تفكّر في التأمين المفترض على حياتهم إن تعرّضوا لحادث. كرهت رب عملهم لشعورها بأنه استغلالي كمعظم أصحاب رؤوس الأموال. لا يهم، لم يعد يجدي هذا التعاطف. ماذا ستفعل لو انقطع الحبل بأحدهم؟ لن تقدر على فعل شيء، أو أنّها مهما فعلت لن تنقذ الرجل. أكثر ما يمكنها فعله هو الاتصال بالصليب الأحمر.
ينهي الرجل السيناريو في رأسها حينما ينتهي ورفاقه من التنظيف من دون التعرض لأي حادث.
تنظر إلى السماء الرمادية، فتتذكر أنّ أحدهم قال لها مرّة ان لون عينيها رمادي. تعلم أنه صادق لأنّها كانت تراها كذلك. تناست الذكريات لأنها ثقيلة وموجعة، فأحسّت أنها بلا جذور. ربما هكذا أفضل؟ لا يهم. تنظر إلى الغرفة فتدرك أنها في مكتب لشاعر توفي قبل فترة. كيف نسيت ذلك؟! تراجع بعض قصائده. تفكّر بالحياة التي كانت قائمة هنا بسببه. تتنهّد وتنظر إلى الصفحة البيضاء أمامها. تكتب: «لاحظت انحلال رباط حذائه فهبطت نحوه لتعيد عقده، وبينما هي منشغلة فيه، كان ينظر إليها مبتسماً، يداعب شعرها من دون أن تشعر. في اليوم التالي، قصدت الحانة ورفيقتها لأنها أرادت معاقبته، لكنه لحق بهما. لمّا دخل الحانة وجدهما ترقصان فأقدم يراقص رفيقتها، متجاهلاً إياها خلفه. أكملت رقصها مسندة جسمها على ظهره، ثم سرعان ما أخذ ذراعها ليرقصا معاً».
كان هذا المشهد من آخر فيلم شاهدته في السينما.
يحدق الطفل العربي في الصورة بعينيها. تتذكر حديثاً مع رجل أربعيني يقنعها بأن للحب شعورا كالطيران، فلم تتخيّل عندها إلا الـ«العمود» الذي سترتطم به ويسقطها أرضاً، كما تخيلت عامل التنظيفات. تنتظر أن تقع الصور الأخرى، إلّا انها تبقى ملتصقة حيث رتبتها. الشمس تدخل الغرفة والهاتف يرن مجدداً، لكنّها لن تجيب. لا لشيء، بل لأنها لم تعد ترى عينيها رماديتين.