من أجمل ما يمكن أن تراه في كرم الزيتون، ربّما، هو جلوس امرأة عجوز على حافة إسمنتية، أمام منزلها القديم. تقطّع تفاحة، وتدعو المارّة من جيرانها والغرباء لمشاركتها. بيوت كثيرة هنا لها تلك العتبات الإسمنتية، التي تحلو أمامها الـ«عصرونية». بينما يتخذ، من لا يملكها، من مساحة الشارع مجلساً له أو من أدراج الحي الكثيرة التي تحيط به من أكثر من جهة. توصلك هذه الأدراج بأحياء مختلفة من الأشرفية، التي لا تشبه الكرم في شيء. فصالون التجميل الموجود في ساحة ساسين، تستبدله فتاة أثيوبية في الكرم برفيقتها التي تجدّل لها شعرها. تجد أكثر من صالون يختص بالتسريحات الأثيوبية، لكثرة القاطنات الأثيوبيات فيه. يعود عمال التنظيفات الخمسة مع بعضهم البعض، بزيّهم الأزرق الموحّد. يتوقّفون قليلاً لمسامرة الجيران، ثم يدخلون منزلهم المؤلف من مطبخٍ وغرفةٍ واحدة. تستطيع رؤيتهم من النافذة وهم يشاهدون التلفزيون. تشعر بأنّ المنازل امتدادٌ للشوارع، النوافذ مشرعة من دون ستائر، إلا كديكور لاستكمال أناقتها. تلحظ حقائب السفر على ظهر الخزانة في بيوت كثيرة، كأنّما يقول أصحابها: «لسنا سوى مقيمين مؤقتين». لا شيء يدعو للاستغراب، فالجنسيات التي تعيش هنا تتعدّى اللبنانيين والسوريين والأثيوبيين والسودانيين. يوقظك من تفكيرك مناداة أحدهم لطوني، فيلتفت لصديقه ويتفقان على موعد يسمعه المجاورون الذين شاركوا في الحديث.
يبدع مالكو السيارات هنا في اختراع ممرّات بين سياراتهم يعجز حتّى شخصٌ نحيلٌ على المرور بينها. كلّما أراد أحدهم الخروج بسيارته، عليه أن يطلب من جاره تحريك سيارته هو أيضاً. هنا كثيرةٌ هي السيّارات القديمة الطراز، لكنّها لا تطغى على الحديثة منها. بالعودة لتفرّعات الحي فهي موزّعةٌ على الجهتين، كيفما توجهت، حيث تشعرك بأنّك في متاهة لن تستطيع الخروج منها أبداً. وعند كل نهاية «زاروبة»، هناك درج ينحدر نزولاً أو نزلة سحيقة، يمكن أن تنزلق فيها إن لم تنزلها بحذرٍ شديد. ترافقك طوال مسيرك في الحي أزهار الياسمين أو الفتنة، عدا الـ«زريعة» الموضوعة على أطراف بعض أدراج المنازل، أو على الشرفات. وترى إن نظرت إلى الأعلى كيف تحيط الأبنية العالية بالبيوت الأرضية أو المؤلّفة من طابقين، كأنّها تغزوها. لكن مساحة السماء تظلّ أوسع هنا رغم كلّ شيء.
في السوق، يجلس الناس أمام محلّاتهم على الرصيف، يلعبون الطاولة ويدخنون النرجيلة. هو سوق شعبي يناسب مداخيل السكان. تجد فيه كل شيء من ألبسة وأحذية، صالونات حلاقة وتجميل، إضافةً للخدمات هاتفية وغيرها من الحاجات الغذائية أيضاً. يروجون لـ«أوكازيون» على البضاعة بلصق كرتونة رمادية كُتب عليها السعر الأصلي بقلم «فتر» عريض، شطب بـ«إكس»، واستبدل بنصف القيمة. تغلق المحال عند المغيب، لكن الشوارع تبقى مفعمة بالحركة. أمّا من جهة الحي القريبة من شارع السيدة، حيث البنايات العالية، فنادراً ما تكون مزدحمةً بالناس. يسيطر عليها هدوء مريب، يقطعه بوق سيارة تنتظر أحداً لينزل من شقته. تغطّي الجدران صور المرشّحين، وأوراق نعواتٍ مرفقة بصور أصحابها.
يستريح الناس من تعب النهار في كرم الزيتون. حي بيروتي تفتقده المدينة، أو تنكره. هو صورة مغايرة عن أشرفية قصور آل سرسق، وثروات آل فياض. بيروت، تلك المدينة التي تطحن أبناءها وساكنيها، يجد فيها قاطنو «حي القبضايات» مساحة ليستطيعوا مواصلة الحياة.