10 تموز 2006
الطقس حارٌ فعلاً اليوم.
اسمع يا عيسى، سأخبرك شيئاً، ولكن لا تخف عليّ، إنني بخير حقاً. كل ما في الأمر، اعتقدت أنّني متّ قليلاً.. إنه شيء غبيّ، أعني أن أقول شيئاً مثل "أنني متّ قليلاً"، ولكنني وعدتكَ من قبل ألا أمحو أو "اظبّط" ما أكتبه في الـ"ايميلات" والرسائل وأبقيه على صيغته الأولى.
لقد طلب مني حمّودي أن أقطّع له تفّاحة خضراء عندما كنت أشتغل في المطبخ، وفيما أنا أزيل البذور، لا أعرف كيف انزلق السكّين من يدي اليمنى إلى إصبع في يدي اليسرى. سال الدم في يدي فغسلته. سال أكثر. أعتقد أنني سمعت حمّودي يناديني، وسمعت أمي كذلك، لكنني عندما أفقتُ من البياض، صفعتني الرائحة، كأنني جالسة في بركةٍ من ماء الورد. كان وجهي مبللاً تماماً بماء الورد، وقميصي كذلك، وكانت أمي تكرّر "بسم الله الرحمن الرحيم..". بعد لحظة، رأيت الخرقة البيضاء ملفوفة على إصبعي، وبقعة الدم الحمراء، دائرية تماماً، كتلك التي تتوسط العلم الياباني، وتذكرت أنني جرحته. تذكرت شيئاً آخر: لقد فكرت، قبل أن أستعيد وعيي، أن الموت يشبه هذا تماماً، شعور لذيذ حقاً، منتهى اللطف، وأنني لا أريد أن أعود.
لا تضحك. قد يكون شيئاً محرجاً أن يُقال في المأتم: "لقد قطعت إصبعها، ولم تستطع تحمّل منظر الدم فماتت". لكن مئات الأشخاص قبلي ماتوا لأسبابٍ أتفهَ من هذا. قد يقول آخرون جملاً أجمل، قد تقول صديقتي، مثلاً: "ماتت مع رائحة التفاح الأخضر، وماء الورد يبلل قميصها. ليسوا كثراً من يحظون بموت كهذا".
اسمع يا عيسى، أنا بخير، لكن أمراً عظيماً سيحدث. لا تتصل في المساء. حدّثني الأسبوع المقبل عن باريس، وكل تلك المدن التي تزورها.
29 تموز 2006
تقول: "أشعر بالراحة لأنكم لستم أنتم من تموتون، بل آخرون". لكنني أشعر بالذنب لأننا لسنا نحن من نموت، بل آخرون.
الآن تصرخ جدّتك بالمذيعة على الراديو بأن تخرس، لأنها لم تتوقف عن إلقاء اللوم على "حزب الله"، "لزجّنا في الحرب". تقول إنّها إسرائيلية، وصِفة أخرى لن أذكرها. تطلب منّي أن أهاتف الإذاعة، كي تسمعها كلمتين وتنصحها بأن تبثّ بالعبرية، وأقول لها إنني أجزم أن كثراً اتصلوا وأسمعوها كلاماً. لا تعرف أن ترتاح هذه المرأة. تذهب الآن إلى ركنها لتصلّي، وتقرأ دعاء أهل الثغور.
"وأعِنهم بالصّبر.. وأعِنهم بالصّبر.. وأعِنهم بالصّبر.."، تُكرر كثيراً.
12 تموز 2012
قال علي إنّه لا يستطيع أن يحلم في بيروت، هو يحلم فقط في قانا. "في بيروت، يأتي قنديل البحر بكامل لزوجته، يفرد أطول مجسّاته المكهربة إلى تلك النقطة بين أعلى رقبتي وأسفل رأسي، ويشفط الأحلام". أمّا كيف تسمح له ضيعته قانا، بالذات، بأن يحلم، فهذا ما لا أفهمه.
كم كان عمرك عندما نجوت من المجزرة الأولى؟
ستاً.
هذا يعني أن عمرك وقت المجزرة الثانية كان؟
16 سنة.
قال علي إن سريره في قانا اليوم هو غير سريره قبل حرب تموز، هو غير سريره قبل "عناقيد الغضب". ذلك وذاك كانا يسمحان له بالحلم أيضاً، لكن هذا غير. هذا السرير يعده بحلم جديد كل ليلة! في البدء، أي قبل عناقيد الغضب، كان يقصّ على أمه كلّ ما يراه في النوم: ورود نيسان، شرانق الفراشات، هدية عيد الأم، وجوه الأصدقاء، أولاد أم حسن يملؤون أباريق زجاجية بالمياه، ثم يدلقونها على بعض.. عندما صارت القصص في الرؤى تكثر وتتشعب، خافت أم علي وأخذته إلى الشيخ، لكي يتلو عليه بعض آيات القرآن. ثمّ كانت المجزرة الأولى.
قال علي إنه لم يعد بعد المجزرة يقصّ على أمه ما يرى. بعد أن أعادوا بناء البيت، صار له سريرٌ جديد، علّق فوقه دعاء الحجّة، صورة لوالده، وأخرى للسيّد حسن. لم يعد يرى وجوه الأصدقاء، ولا أباريق أولاد أم حسن الشهداء. صار يحلم بالمدن البعيدة، أشجار الليمون، أدغال افريقيا، سطح القمر، كُتب والده، وغمّازات الفتيات.
صارت قدماه تتخطيان حافة السرير، لكنه لم يتأفّف. ثم كانت المجزرة الثانية. قال علي إن صحافياً أشقر أتى، وسأله بالانكليزية، لماذا يعتقد أن الله اختاره هو بالذات ليبقى حياً بعد المجزرتين. "لقد فقدتَ أصدقاءك صغيراً، وأفراداً كثراً من جيرانك وعائلتك. ماذا تفكر، إذاً، حين ترى أن الله أنقذك مرتين؟". أراد علي القول إنّه يفكر بشعوره بالنعاس، ليس إلا. لكنّه قال: "أفكّر أن الصيد هوايةٌ لا بأس بها، وأن المشي في الجبال هواية لا بأس بها، وأن تسلّق الصخور هواية لا بأس بها أيضاً".
لا أعتقد أن علي قال هذه الأشياء فعلاً، تبدو إجابته مسرحية جدّاً بالنسبة لفتى خجول في السادسة عشرة. لكنه قال إنّه قالها.
صار علي بعد المجزرة الثانية يحلم بطريقة أكثر "تجريديةً": صوتٌ جميل يتلو القرآن، ضفائر داكنة/ ضفائر شقراء، اللون الأخضر، حصى تصنع أشكالاً أسفل البئر، غيمة بيضاء، رائحة مناقيش الزعتر! أقسَمَ انه يشمّ الرائحة في الحلم! كان ذلك جزءاً من سحر السرير الجديد.
الآن، في الزيارات إلى بيروت، علي لا يحلم. البارحة فقط رأى حلماً عن قنديل بحر عملاق، يطفو فوق بيروت والضاحية، يسبح كأنّه في الماء، يثقل الهواء، وعلي يشاهد الكائن الرخوي من قمّة عالية، ومعه أصدقاؤه القدامى، ما زالوا صغاراً، ومعهم أولاد أم حسن وأباريقهم الزجاجية، يشاهدون. يتوقّف الوحش في "منتصف السماء"، فوق "منتصف بيروت"، ويرمي صاعقة مهولة من نار على الضاحية الهادئة على غير عادة، فتضجّ بالحياة!